نبذة النيل والفرات:الحضارة هي الوجه الآخر للإنسان؛ تشتمل على كل مقدرات الإنسان وأعماله، من الحصول على الغذاء إلى أدواته الإنتاجية وكل منتجاته التنظيمية وأيديولوجياته وأفكاره الغيبية وإبداعه الفني. لهذا لا يوجد مجتمع بشري بدون حضارة مهما كانت درجة بدائيته. وإذا كان الإنسان كائناً عضوياً؛ فإن الحضارة هي الأخرى كائن عضوي تنبع من ال...
قراءة الكل
نبذة النيل والفرات:الحضارة هي الوجه الآخر للإنسان؛ تشتمل على كل مقدرات الإنسان وأعماله، من الحصول على الغذاء إلى أدواته الإنتاجية وكل منتجاته التنظيمية وأيديولوجياته وأفكاره الغيبية وإبداعه الفني. لهذا لا يوجد مجتمع بشري بدون حضارة مهما كانت درجة بدائيته. وإذا كان الإنسان كائناً عضوياً؛ فإن الحضارة هي الأخرى كائن عضوي تنبع من الواقع وتعيش عليه وتتغذى بالوراثة وتنمو بالتجربة الجديدة، وتستجيب لكافة أنواع المؤثرات الداخلية النابعة من المجتمع، والخارجية القادمة من مجتمع حضاري آخر، ويترتب على ذلك أن تثرى الحضارات أو تتفاعل وتذوب أو تتشكل في صورة جديدة أو ترفض التطعيم فتنعزل وتذبل ثم تموت في مجتمعها.ولأن الحضارة كائن عضوي مستجيب لكل المورثات، فإنها أخذت أشكالاً مختلفة عند المجتمعات المختلفة. لقد أدى تفاوت الظروف الخاصة لكل مجتمع، سواء كانت ظروفاً مكانية أو زمانية أو تاريخية، إلى تفاوت كبير في أنواع الحضارات وأشكالها: بعضها أخذ يتجمد لفترة طويلة، والبعض ينمو بسرعة لفترة ما، والبعض الآخر ينصهر ويذوب في حضارات متوسعة، أو يموت وينقرض.لقد أدى كل هذا إلى أن يغطي سطح الأرض المسكون لوحة من الفسيفساء الحضارية، تحاول الحضارة الصناعية أن تغزوها كلها وتسيطر عليها منذ بداية هذا ومن ناحية أخرى، فإن الاختلاف السلالي والحضاري منذ القدم، أدى إلى تصنيف نسبي موحد عند كل مجتمع في العالم، في الماضي والحاضر. هناك "الناس" وهم بنو جلدتنا ومجتمعنا ولغتنا وحضارتنا نحن. وهناك "الناس غيرنا" وهم غيرنا في المجتمعات والحضارات. ولقد كان "الناس غيرنا" دائماً مثار التعجب والاستغراب عند العامة من "الناس" ومثار فحص وتمحيص عند الخاصة من "الناس" ومن هنا كانت بداية دراسة الإنسان، وهو موضوع البحث في هذا الكتاب.والآن ماذا يفعل عالم الإنسان "الانتروبولوجيا" في هذا الخضم من الناس والحضارات. إنه باختصار شديد يقوم بما كان يفعله في الماضي الخاصة من "الناس"، تحري طبيعة الإنسان وطبيعة الحضارات، ولكن على أسس علمية منهجية. وهذا الكتاب بدوره يفعل هو الآخر ما فعله الأقدمون والمحدثون. إنه محاولة لمزيد من المعرفة عن الإنسان كي يعطينا قدراً من المعلومات تساعد على اتخاذ المواقف الصحيحة من قضايا التغير الحضاري في عالمنا المعاصر الذي قصرت فيه المسافات إلى الحد الزمني الأدنى، وزادت فيه تفاعلات المجتمع العالمي كتمهيد لوحدة حضارية ذات أداء نسعى إلى تناسقه وانسجامه.