إن حرية الرأي و التعبير تعتبر المدخل الرئيس لممارسة الحريات كحرية الإعلام و النشر، و المعبر الأساس لمباشرة الحقوق المكفولة للأشخاص سواء كانت فكرية، ثقافية.. أو غيرها من الحقوق، و هي بذلك جسر جميع الحريات الأساسية و سندها و التي تحتمها طبيعة الأنظمة الحديثة، و تعد ركيزة لكل حكم ديمقراطي سليم. و هذه الحرية هي نتاج تفاعل الآراء و ت...
قراءة الكل
إن حرية الرأي و التعبير تعتبر المدخل الرئيس لممارسة الحريات كحرية الإعلام و النشر، و المعبر الأساس لمباشرة الحقوق المكفولة للأشخاص سواء كانت فكرية، ثقافية.. أو غيرها من الحقوق، و هي بذلك جسر جميع الحريات الأساسية و سندها و التي تحتمها طبيعة الأنظمة الحديثة، و تعد ركيزة لكل حكم ديمقراطي سليم. و هذه الحرية هي نتاج تفاعل الآراء و تقاطع الأفكار و تضاربها أحيانا نتيجة تنوع الفكر الإنساني من جهة، و الدفاع عن المصالح من جهة أخرى، فلا يجوز تقييد حرية الرأي و التعبير و إعاقة ممارستها سواء من ناحية فرض قيود مسبقة على نشرها، أو من ناحية العقوبة اللاحقة التي تتوخى قمعها، بل يتعين أن ينقل كل فرد من خلالها وعلانية تلك الأفكار التي تجول في عقله. و عملت التشريعات الصحفية الدولية منها و الداخلية، و كذا تشريعات الدول العربية و منها الجزائر، التي سعت لتكريس هذه الحرية و إعطائها بعدها العميق، لاسيما بعد التحولات التي طرأت على نظامها السياسي و الإقتصادي، و الإجتماعي و ما إشتمل ذلك على مسايرة هذه التحولات للحقوق المرتبطة بالإنسان، و ذلك في دستور 23 شباط / فبراير 1989 و أعطاها الإطار القانوني في نص المادة 35 منه، ثم التعديل الدستوري الصادر في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 1996 في نص المادة 36 منه. هذا و يعتبر الإعـلام بمختلف صوره و أجهزته المكتـوبة أو السمعـية أو البصرية أو الإلكترونية من أهم وسائل التعبير عن الرأي في العالم المعاصر ، و إذا كان له دور ريادي يؤثر على الأفراد و يسهم في تشكيل و صيانة الرأي العام من خلال كشف ما خفي من جوانب المجتمع من نقص، و العمل على تنبيه و دفع الجهات المسئولة إلى إصلاح وتكملة هذا النقص في جميع مناحي الحياة ، فلا يجب أن يكون مطية للتجاوز في استعمال حق النشر و الإعلان للمساس بالغير. و قد يتضمن هذا الإعلان من طرف الصحفي مساسا بشرف و اعتبار الأفراد و الهيآت التي يصبغها القانون بالحماية الجنائية، و الحقيقة أنه يشكل نشر بعض الأمور في الصحف جرائم جنائية وتمثل تلك الجرائم إساءة لاستعمال حرية التعبير عن الرأي بنشر ما فيه إضرار بحقوق الجماعة أو الأفراد مما يدفع المشرع إلى حماية تلك الحقوق والمصالح وتجريم تلك الممارسات، وذلك سواء أكان الفعل المكون للجريمة ايجابياً كجرائم القذف والسب أم سلبياً كالامتناع عن نشر الرد و التصحيح. هذا و إن حرية الصحافة ليست إمتيازا للصحفيـين وحدهم، ولكـنها أداة و وسيلة لجميع فئات المجتمع للدفاع عن حقوقها، وحمايتها من أي اعتداء عليها. و ما يلاحظ أنه يسارع كل من تعرض لنقد من أي صحفي إلى رفع دعوى قضائية مع أن القانون يتضمن وسائل أخرى يمكن الأخذ بها واللجوء إليها قـبل اللجوء إلى القضاء، وتتمثل هذه الوسائل في حق أصيـل هو حق الرد و التصحيح، هذا الأخير الذي يؤكد الوظيفة الإعلامية للصحافة من خلال تدارك الخلل في ما تم نشره من نقص أو تشويه، لكي يتمكن الرأي العام من تحديد موقفه من مجريات الأحداث وهو على علم بحقائق الأمور، كما يدفع الصحفي إلى تحري الدقة في كل ما ينشره. و قد أقرت المواثيق العالمية و الإقليمية و الداخلية حق الرد و التصحيح، فتبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة مسودة اتفاقية نقل الأنباء الدولية و حق التصحيح في عام 1949، و إعتمدتها بتاريخ 16 كانون الأول/ ديسمبر 1952، و حرصت قواعد آداب مهنة الصحافة على تقرير هذا الحق الذي نص عليه ميثاق الشرف الصحفي الدولي الصادر عن الأمم المتحدة عام 1952. أما المشرع الجزائري فقد نص على ممارسة حق الرد و التصحيح، في القوانين المتعلقة بالاعلام بدءا من القانون رقم 82-01 المؤرخ في 06 شباط/فيفري 1982، و إمتد إلى القانون رقم 90-07 المؤرخ في 03 نيسان/أفريل 1990، ثم قانون الاعلام رقم 12-05 المؤرخ في 12 كانون الثاني/جانفي 2012. و يعتبر حق الأشخاص طبيعيين أو معنويين - ممن تناولهم النشر الصحفي- في الرد على ما نشر بشأنهم في ذات الصحيفة من الضمانات التشريعية لحماية سمعة الأفراد وكرامتهم من ناحية ولتأكيد قيمة العملية الديمقراطية من خلال التفاعلية بين الصحف و القراء من ناحية ثانية، ولتصحيح تجاوزات النشر القانونية أو الأخلاقية من ناحية ثالثة. و ينطوي موضوع حق الرد و التصحيح في جرائم النشر الصحفي على كثير من النقاط الغامضة و ربما كان هذا الغموض راجعا إلى تعقد الموضوع في حد ذاته من جهة لإرتباطه بحرية الصحافة و عدم إيلاءه قدره اللازم من طرف المشرع، و إلى قصر معالجته من جهة أخرى. و محاولات معالجة الموضوع بطريقة علمية - أو على الأقل بموضوعية – جديـدة لم تبـدأ إلا بعد التقـدم الملحوظ الذي بلغـته الصحف في تحريـرها و إخراجها و انتشارها من جهة، و التقدم العلمي و التكنولوجي الذي سايـرها من جهة أخرى، و كذا وسائط الإعلام الحديث التي أصبحت تشكل رافدا من روافد تلقي و ارسال المعلومات بمختلف صورها من جهة ثالثة، و نظرا لتعقد الموضوع و إنعدام معالجته بصورة علمية إلا ما إقتصر على تناثر شابه الغموض و إشارات صحفية نادرة لم يتوصل فيه إلى كثير من الحقائق و النتائج، مما يزيد الأمر تعقيدا قلة الدراسات المتخصصة. و تنعكس أهمية المعالجة القانونية لحق الرد و التصحيح في جرائم النشر الصحفي في وضع ضوابط قانونية لحق الرد و التصحيح، وتهدف إلى لفت انتباه الجهاز القضائي والقانوني إلى سلوكيات وأفعال جنائية ترتكب ضد الآخرين بطريق النشر الصحفي أو الإمتناع عن نشر و إدراج الرد و التصحيح، و كذلك تبيان الآثار التي تترتب على ممارسة حق الرد أو عدمه على المسؤولية الجنائية للصحفي و ما يعكسه في المجالين العلمي و القانوني. و من جهة أخرى نسعى في هذا الكتاب للوصول إلى كيفية الموازنة بين حقوق أطراف ثلاث: حق الصحفي المهني و حريته في التعبير عن رأيه، و حق المعتدى عليه في درء الإعتداء المعنوي عليه الذي قد يؤدي بالتبعية إلى إلحاق الضرر المادي به، و من جهة أخرى حق الغير في الإطلاع على كل ذلك إنطلاقا من حريته في المعرفة و حدود تلك الحرية. فغاية الصحفي دوما هي الحصول على المعلومات و نشرها، و قد يصيب هذا النشر الغير بأضرار سواء كانت مادية أو معنوية، أو حتى مراكزهم المالية أو مكانتهم الإجتماعية، أو يمس شرفهم و اعتبارهم، و تزداد هذه الأضرار جسامة مع زيادة تأثير الصحف في الرأي العام، لذا فالمشرع وضع الرد و التصحيح و منحه حقا للمتضرر سواء كان شخصا طبيعيا أو معنويا دون أن يعطي الحدود و الضوابط القانونية في ممارسة هذا الحق و تأثيراته عندما يغيب على المسؤولية الجنائية، لذا فالبحث يؤسس لنظرية عامة هادف الكشف عن معالم حق الرد و التصحيح و طبيعته القانونية، كما يهدف إلى وضع ضوابط قانونية تراعي التناسب ما بين فعل التجريم الناتج عن النشر الصحفي و فعل الرد المترتب عن هذا الأخير، و أثر حق الرد و التصحيح في قيام المسؤولية الجنائية في حالة عدم نشر الرد من طرف الصحيفة مع تحليل نصوص قانون الإعلام الجزائري و مقارنتها بالتشريعات الإعلامية الأخرى كالتشريعات المصرية و الفرنسية مع تقويمها. و الحقيقة أن هذا البحث يتطلع إلى فسح ممارسة حق الرد و التصحيح و إعطائه مكانا واسعا و ذلك بغية الإقلال من عدد الدعاوى الجزائية و إمكانية حسم الآراء و ما قد تثيره حسما ديمقراطيا و هذا يعتبر تحولا من الطريق الجزائي إلى الطريق الحواري و الذي يزيل عبئا كبيرا عن كاهل القضاء المنهك ، كما يسهم أيضا بإقتراح بعض التعديلات الضرورية على المنظومة القانونية فيما يخص حق الرد و جرائم النشر الصحفي مع تبصير الفرد ، الصحفي و المشرع بأخطار المشكلة حتى يمكن تفادي مثل هذه الجرائم و تبعاتها. كما نسعى إلى تطوير الإطار التشريعي والقانوني للعمل الصحفي بما لا يحمل أية شبهة للحد من حرية الصحفي في ممارسته لعمله، وإبدائه لآرائه، ويحفظ في نفس الوقت حقوق الأفراد والمجتمع، ذلك أن الهدف المنوط هو الموازنة بين حقوق الفرد و المجتمع موازنة دون قيد أو إطلاق لأحد الحقوق على الآخر.