لبنان لا يتغير إلا على في النمو الذي يشبهه، إنه لا يعرف تغيرات الآخرين وانقلاباتهم، لأن طريقه، منذ البدء، كانت سالكة وواضحة، ومختلف الحروب لم تغير معالم الطريق، فكل ما جرى بعيد لبنان دائماً إلى نقطة إنطلاقه، إذ ليس له من نقطة إنطلاق غيرها، ومن مسارٍ سواها، فهي المبتغى والمرمى المتكرر يوماً بعد يوم.فلبنان هو إنطلاقة مجددة أبداً، ...
قراءة الكل
لبنان لا يتغير إلا على في النمو الذي يشبهه، إنه لا يعرف تغيرات الآخرين وانقلاباتهم، لأن طريقه، منذ البدء، كانت سالكة وواضحة، ومختلف الحروب لم تغير معالم الطريق، فكل ما جرى بعيد لبنان دائماً إلى نقطة إنطلاقه، إذ ليس له من نقطة إنطلاق غيرها، ومن مسارٍ سواها، فهي المبتغى والمرمى المتكرر يوماً بعد يوم.فلبنان هو إنطلاقة مجددة أبداً، كل ما جرى طوال سنوات الحروب، تسبب بالكثير من المشوهات بالطبع... ولو كانت هنالك من حروب تسمى عبثية فليس أصح من حروب لبنان لتنطبق عليها، لبنان هو دائماً عودٌ على بدء: هنالك مجموعات بشرية من معتقدات مختلفة اختارت أو انقادت، على مرّ التاريخ، وتحديداً منذ القرن السابع عشر إلى العيش معاً.كان ذلك عسير ولا يزال، وبخاصة لأنه لم يكن بفعل أبناء المجموعات هؤلاء، بل دائماً وأبداً يفعل غيرهم، فمنذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي حصلت تحولات عالمية ما كان لبنان إلا ليغتبط بحصولها، سقوط الأنظمة الماركسية - اللينينية وحكم الظلم والظلام وإنهيار جدار برلين، وتحول جميع دول أوروبا الشرقية إلى إقتصاد السوق الديموقراطية.وفتحت العولمة أبواب العالم بعضها على البعض الآخر، في مجالات المعرفة والتبادلات، وكل ذلك يسعد "لبنان" لأنه يلتقي مع تطلعاته حتى وإن كان لا يزال آنذاك تحت وطأة ظروف قضت بتشديد القبضة عليه في قبل نظام وصاية محجب عنه، لزمن غير قصير، التعاطي برحابة مع العالم الخارجي على نحو ما هو مبرّر وجود لبنان وموقعه الطبيعي ورسالته وإسهامات أبنائه.لقد حدثت تبدلات العالم تلك، ومنطقة الشرق الأوسط كانت لا تزال مغلقة، مغلقة على ذاتها بأنظمة حكم لم تتطور وذلك قبل أن تظهر حركات التغيير في دول المشرق والمغرب معاً بشكل يقودها حتماً إلى أوضاع جديدة ستتبدل معها معالم المنطقة ككل، فكل نظام حكم انطوى على ذاته وانعزل عن العالم هو في الحقيقة نظام لأصحاب السلطة وليس للشعوب، إذ ليس هناك من شعوب غير جدير بالحرية... حدث ذلك أيضاً عندما كانت منطلقات بعض تلك الأنظمة مقولة الصراع مع إسرائيل وأولويات المواجهة معها.وهكذا بقيت الأنظمة على حالها حتى عندما تصالح بعضها مع إسرائيل أو تفاوض معها، لأن للإستمرار مبررات أخرى، وهكذا عندما ينشغل الآخرون بأنفسهم فإن "لبنان" يهدأ، فهو، في تاريخه، لم يضطرب يوماً بفعل من ذاته، وأن خلافاته الداخلية لا تبرر جعله مساحة للحروب.وفي مطلع عام 2011 بدا أن غالبية الدول العربية منشغلة بنفسها، عندما هبت رياح التغيير على تونس ومصر واليمن والجزائر وليبيا والبحرين وغيرها، في حركات ثورية جعلت الصحافة العالمية تكتشف أن العرب قادرون على الثورة، وأن لديهم خيارات غير المفاضلة بين الدكتاتورية أو النهج الأصولي، بين المستبد أو الساخط بإسم الدين... ولكن قبل ذلك كان لبنان قد أجرى ثورته.كان لبنان في أساسه، وفي منطلقات تكوينه ثورة... ثورة مبكرة لم يعرف معها المؤسسون أتهم يرسون نظام حكم قائم على الحرية وسط محيط لم يعرف حتى الآن، أي بعد تسعين عاماً على نشوء الكيان اللبناني، غير ممارسات متقطعة ومشرذمة لها، أو أي خيار يقوم عليها...وفي هذا المجال، اعتبر لبنان ثورة دائمة، لان مرتكزاته كانت ثوابت مبرر وجوده، فبعد خمس سنوات فقط من إستقلاله عام 1943، قامت دولة إسرائيل وتغيرت أنظمة الحكم العربية في غالبية البلدان، وبلغت الحرب الباردة بين الإتحاد السوفييتي والغرب ذروتها، وانعكست صراعات حادة في منطقة الشرق الأوسط، دون أن يتغير مسار الحكم اللبناني، وانتقلت الصراعات إليه عبر الحروب المتنوعة الأهداف والوسائل، لكن نظام حكمه الحرّ لم يدمّر.ضمن هذه المناخات تأتي مواضيع مجموعة من المحاضرات التي ألقاها "داود الصايغ" ما بين 2005 و 2010؛ من هذه المواضيع ما يعود إلى النظام السياسي والفكر السياسي اللبناني، ولكن أيضاً فيما يعود إلى المؤسسات وطريقة عملها، فضلاً عن المواضيع التي تتعلق بالأحداث الكبرى المأساوية، قبل إستشهاد الرئيس "رفيق الحريري" الذي خصص له عدد وافر منها.وهناك أيضاً مواضيع حول الحوار بين الفاتيكان والإسلام والعروبة واللبننة، وعلاقة لبنان بمجلس الأمن الدولي ومناسبات أخرى، يجمع فيما بينها هم واحد في الرؤية إلى "لبنان"، ليس فقط كما يمكن تخيله، بل "لبنان" كما هو في الواقع، مجرداً من الظروف القاسية التي قضت بجعله رهينة لصراعات المنطقة.