على الرغم من أن تركيا - كما يبدو - باتت ترى أن من المناسب تماماً بالنسبة لها توسيع علاقاتها مع جيرانها والدول الأخرى في الشرق الأوسط وتعميقها، فإن هذا التغير بدا جذرياً إلى حد أنه دفع بمراقبين غربيين وأتراك على حد سواء إلى التساؤل عما إذا كانت تركيا تعتزم التحول بعيداً عن المقاربة التقليدية التي تعتمدها في سياستها الخارجية والقا...
قراءة الكل
على الرغم من أن تركيا - كما يبدو - باتت ترى أن من المناسب تماماً بالنسبة لها توسيع علاقاتها مع جيرانها والدول الأخرى في الشرق الأوسط وتعميقها، فإن هذا التغير بدا جذرياً إلى حد أنه دفع بمراقبين غربيين وأتراك على حد سواء إلى التساؤل عما إذا كانت تركيا تعتزم التحول بعيداً عن المقاربة التقليدية التي تعتمدها في سياستها الخارجية والقائمة على التوجه صوب الغرب. والحقيقة القائلة بأن الأساس الذي قام عليه الحزب الحاكم تعود جذوره إلى تأسيس الحركة الإسلامية في تركيا أواخر ستينيات القرن العشرين بقيادة نجم الدين أربكان، إنما تعزز المخاوف بشأن محاولات أنقرة الرامية إلى شق مسار جديد لها في الشرق الأوسط. وعلى أي حال، فإن تركيا لطالما اتخذت موقف المراقب الحذر اللامبالي للسياسات المتبعة في الشرق الأوسط، بينما دأبت على تكريس الجانب الأعظم من قدراتها الدبلوماسية لإضفاء الطابع المؤسسي على علاقاتها مع أوربا والولايات المتحدة الأمريكية. وكان هذا التوجه صوب الغرب، وبخاصة عضوية أنقرة في حلف الناتو، قائماً قبل صعود حزب العدالة والتنمية، وقد شكّل في الوقت نفسه مصدر ريبة وشك كان العالم العربي ينظر إلى تركيا من خلاله. ولعل العامل الأقوى تأثيراً هو أن امتزاج الإرث العثماني في منطقة الشرق الأوسط مع السياسة الرسمية التي أرستها الحركة الكمالية والقائمة على المذهب العلماني، والتي بدت للكثيرين في منطقة الشرق الأوسط على أنها سياسة إلحادية، قد زرعت بذور الفرقة بين تركيا والعالم العربي على نحو غير خافٍ على أحد، وإن هو غير معلن.ومهما يكن، فإن هذا الدور التركي الحديث العهد في الشرق الأوسط لن يكون فعّالاً ومؤثراً، كما يحسب البعض في أنقرة، ولا ضاراً، كما يوحي خصوم حزب العدالة والتنمية الغربيين. ولا ريب في أن تركيا موجودة في الشرق الأوسط كي تبقى فيه؛ ومع ذلك، فإن دور اللاعب الوسيط الذي تتمناه تركيا لنفسها بصفتها قوة إقليمية مهمة، قد يكون عرضة للخطر بسبب ما يعرف بـ "الربيع العربي". وقد لا يحدث هذا جراء الهفوات التي وقعت فيها تركيا سابقاً بالنسبة لحالتي ليبيا وسوريا، بل لأن الدول العربية، وبخاصة مصر، إذا ما قيض لها النجاح، فإن العرب ستتجه أبصارهم نحو الداخل من جديد بحثاً عن قيادة لهم. وبقدر ما اكتسبته أنقرة من أهمية على مدى العقد الماضي، ففي حال استعادت مصر بريقها على المستوى الإقليمي، فإن القاهرة ستعود مرة أخرى لتصبح مركزاً محورياً للمعرفة، وللأعمال والنتاجات الثقافية، وللقوة السياسية والدبلوماسية في الشرق الأوسط. وهذا لا يعني القول بأن تركيا ستعود لممارسة دور ثانوي في مثل هذه الظروف، وبأن دورها الأكثر ديمومة في الشرق الأوسط سيكمن في قدرتها على أن تكون المحرك الاقتصادي للمنطقة. وفي واقع الأمر، فإن السبيل الأمثل أمام تركيا للتأثير في مسار العالم العربي، الذي يشهد تحولات لم يسبق له مثيل، يمر عبر روح المبادرة الريادية الخلاقة، واستعدادها لتوظيف قدراتها في أماكن ربما لن يسبقها إليها أحد. ومع أن هذا قد لا يمثل "الرؤية الكبرى" التي تدور في أذهان أردوغان وداود أوغلو أو غيرهما من قادة حزب العدالة والتنمية، لتركيا في المنطقة، ولكن قدرات تركيا وإمكاناتها الاقتصادية يمكن أن تشكل العامل الأهم الذي يمكّنها في نهاية المطاف من بلوغ هدفها المتمثل في "تصفير المشكلات" في المنطقة المتاخمة لها بشكل مباشر.