زياد عيتاني


قد شهدت الإنسانية على مر العصور أشد الجرائم وحشية وضراوة التي ارتكبت بحق الإنسانية والتي أسفرت عن مآسي وكوارث حاول المجتمع الدولي إدراكها ومنع تكرارها ولو متأخراً. فاالتشريعات اليت وضعتها الأمم عبر التاريخ، كان الغرض منها حماية الإنسان عبر منحه الأمن والعدالة ومعاقبة كل من يخل بهما. إلا أن هذه الأمم قد نجحت حيناً وفشلت أحياناً كثيرة مما أدى إلى عجز الدول عن وقف هذه المجازر والجرائم وردع مرتكبيها.من هنا بدأت الحاجة لإيجاد هيئات ومنظمات تتعاون فيها الدول، للعمل على صياغة مبادئ ولو نظرية أحياناً، ولوقف إرتكاب أشد الجرائم خطورة بحق البشرية والاحتكام إلى هيئات محايدة يجد فيها الضحايا عدالتهم والمرتكبون للجرائم عقوبتهم ولو بعد حين. وقد بدأ التفكير جدياً لإيجاد هذه الهيئة منذ العصور القديمة عند الإغريق والرومان، وعبر عدة هيئات ومؤتمرات ومعاهدات عقدت خصيصاً لهذه الغاية واستمرت حتى عصرنا هذا، فكان الهدف هو في إنشاء قضاء جنائي دولي دائم لأجل محاكمة مرتكبي أشد الجرائم خطورة على سلم الإنسانية وأمنها في حياد واستقلال تامين.هذا وقد اشتدت الحاجة إلى إنشاء قضاء جنائي دائم بعد أن قام مجلس الأمن لدى الأمم المتحدة بإنشاء خصيصاً لهذه الغاية محكمتين لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة ولمحاكمة مرتكبي جرائم الإبادة في رواندا. تمتاز هذه المحاكم بأنها مؤقتة وليست دائمة. وبعد جهود حثيثة من اللجنة القانونية في الأمم المتحدة ولاحقاً من اللجنة التحضيرية للأمم المتحدة المكلفة بإنشاء قضاء جنائي دولي دائم، تم انعقاد مؤتمر روما عام 1998 للمفروضين الدبلوماسيين والذي قضى بالإعلان عن إنشاء قضاء جنائي دائم هو المحكمة الجنائية الدولية.إن إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة لمحاكمة مرتكبي جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، ولاحقاً جريمة العدوان بعد التوصل إلى تعريف لها، ساهم بإحداث تطور كبير في القانون الدولي الجنائي. لقد أوجدت المحكمة سلطة قضائية دولية أعلى مكانة من السيادات الوطنية. نتيجة لهذا المفهوم قامت عدة دول بمحاربتها خوفاً من أن تحل مكان قضائها الوطني في محاكمة رعاياها إذا ما ارتكبوا الجرائم المنصوص عليها في نظام المحكمة.خدد نظام روما الأساسي للمحكمة اختصاصها بشكل حصري ليشمل كلاً من جرائم الإبادة وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم العدوان. ولكن تحديد اختصاص المحكمة أوجد إشكالية تنازع بين القضاء الوطني والقضاء الدولي، بسبب رفض بعض الدول اعتبار القضاء الجنائي الدولي قضاء تكميلياً للقضاء الوطني أو أظهر عدم رغبة وجدية في محاكمة مرتكبي الجرائم كون هذا التقدير للرغبة في المحاكمة تحكمه معايير مختلفة.وقد اعتمد القضاء الجنائي الدولي المسؤولية الجزائية الفردية، بحيث يكون للمحكمة سلطة اختصاص على الأشخاص الطبيعيين واستبعد مسؤولية الهيئات المعنوية الاعتبارية. هذا الموضوع أثار إشكالية حول مسؤولية الرؤساء والقادة عن الجرائم المرتكبة من قبل المرؤوسين وما إذا كانوا يستفيدون من الحصانات المعطاة لهم بسبب توليهم مراكزهم.إلا أن هذا التطور بالقضاء الجنائي الدولي، حاولت بعض الدول محاربته ومواجهة المحكمة الجنائية الدولية، عبر سن قوانين بتشريعاتها الداخلية تقوض بموجبها عمل المحكمة. كما لجأت دول إلى عقد اتفاقيات ثنائية مع الدول الأعضاء في المحكمة لمنعهم من تسليم رعايا الدول غير الموقعة، ولمنع محاكمتهم عن الجرائم المرتكبة والتي تدخل في اختصاص المحكمة وذلك تحت طائلة حرمانهم من مساعدات مالية وعسكرية. وقد تم استغلال بعض نصوص نظام روما للتحايل على قرارات تصدر عن مجلس الأمن الدولي بهدف منح حصانات لمرتكبي الجرائم ولإجهاض الهدف الذي من أجله انشئت المحكمة.إن مصادقة عدد كبير من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي، أدخل هذه المحكمة حيز النفاذ. فيما تأخر البعض على المصادقة إما لعدم إدراكه فعلياً حقيقة مفهوم المحكمة ونظامها الأساسي، وإما بسبب تضارب مبادىء المحكمة مع الأنظمة الداخلية للدول ولمصالحها، وإما بإنتظار إجراء التعديلات اللازمة على قوانينها. ولكن تبقى الشريحة الكبرى من هذه الدول مؤيدة لها حيث بلغ عدد الدول المصادقة على نظامها حتى 14 آذار 2008 مئة وست دول.إن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، سيحدث إشكاليات ونقاشات في المفاهيم القانونية لكثير من مبادىء القانون الدولي. نذكر على سبيل المثال موضوع السيادة، إذ ما زالت عدة دول تعتبر أن الإنضمام إلى المحكمة سيكون تنازلاً كبيراً عن سيادتها عبر إعطاء المحكمة صلاحية محاكمة مواطنيها وهذا يعتبر تدخلاً في شؤونها، ويثير تنازعاً بين القانون الداخلي والقانون الدولي العام. كما أن صلاحية المحكمة في جريمة العدوان يطرح إشكالية في إطار تنازع الإختصاص بين المحكمة ومجلس الأمن المناط إليها حفظ الأمن والسلام الدوليين. كما يطرح إنشاء المحكمة مفهوماً جديداً في التعاون الدولي لأجل نشر العدالة، وتعاوناً دولياً من نوع آخر لأجل التحايل على نظام روما.لا بد من التوضيح في هذا المجال أن نشأة وتطور القانون الدولي الجنائي عبر التاريخ قد أسهم بشكل كبير في تحقيق هدف إنشاء المحكمة الجنائية الدولية. وأن هذا التطور هو الأساس الذي أدى إلى إنشاء المحكمة. كما أن المحكمة بإنشائها لم تستفد من هذا التطور فحسب، بل ساهمت بدورها فيه، إذ أن تحديد الجرائم وأركانها التي تدخل في إختصاص المحكمة وإيجاد هيئة دولية دائمة لمحاكمة مرتكبي تلك الجرائم هو التطور الأساسي الذي حصل في القانون الدولي الجنائي.كل هذه الأمور تعكس أهمية الموضوع وضرورة معالجته سيما وأنه من المتوقع أن يزداد النقاش حوله في المستقبل، لذلك رأى الدكتور زياد عيتاني المفيد بحثه والتعرض لكافة نقاطه. وعلى هذا الأساس قام بعرض الموضوع عبر تسلسل تاريخي بدءاً بنشأة وتطور القانون الدولي الجنائي، منذ العصور القديمة مروراً بالجهود والمؤتمرات العلمية التي إنعقدت لذلك وصولاً إلى إنشاء محاكم دولية مؤقتة لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة ورواندا. ثم تعرض إلى إختصاص القضاء الجنائي الدولي الدائم المتمثل في المحكمة الجنائية الدولية باحثين الجهود التي بذلت عبر الأمم المتحدة وفي مؤتمر روما وإختصاصه في جرائم العدوان والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، ثم بحث القواعد الإجرائية والإثبات في المحكمة وأصول العمل لدى المحكمة والمبادىء العامة للقانون الدولي الجنائي والعقوبات الواجبة التطبيق، وأنهى بحثه في موقف بعض الدول من المحكمة لا سيما الدول العربية، والولايات المتحدة الأميركية، ولبنان، وذلك في أربعة أقسام هي:القسم الأول: نشأة وتطور القانون الدولي الجنائي.القسم الثاني: إختصاص القضاء الجنائي الدولي الدائم.القسم الثالث: القواعد الإجرائية والإثبات.القسم الرابع: إشكاليات مواقف بعض الدول من المحكمة.


الصفحة الرئيسية