محمد عياش ملحم


في عام 1956 ما كانت الأحوال عليه كما هي في عام 2003 , أحوال تاريخنا و جغرافيتنا عام 1956 لم تكن كما كانت عليه عام 2003كنا نحرك شيئا من التاريخ و الجغرافيا ... و كان التاريخ و الجغرافيا ... يتحركان فينا ... و نتحرك فيهما ... حراكا جدليا ... سوعنا و سوغناه في نفوسنا و عقولنا .أقول عندما استعيد ذاكرة تاريخ و جغرافية الأمس في ذاكرة تاريخ و جغرافية اليوم ... أقف مشدوها .. أمام هذا التحول العاصف القاصف العظيم الجلل المذهل الذي يتجلى في عمق حركة الحياة و الفكر ... هكذا أراه بعد غياب طويل .. طويل .كان شابا نحيفا رقيقا عاصفا و كان عيونه الحادة اللماحة و احسبها رمادية تمطرك بنظرات واثقة ... تستعجلك بعمل إنساني ما .. من أجل الملايين ألمعذبة في الأرض .. وجهه مستطيل ... وأنفه يأخذ موقعة الوقور .. بين وجنتين ملمومتين .. متمددا بتسامح .. تكاد أرنبته .. تلامس شاربة الحريري .. الذي ينحني بوقار على شفتين ناعمتين .. تنفرج ابدا عن ابتسامة ... تشفها اسنان ناصعة البياض كالثلج ..وله أذنان ناقرتان كبيرتان محدوبتان لاقطتان ناصتتان .. بأدب جم .. و إصغاء فطن .محمد عياش ملحم .. هذا الفلسطيني المتوقد أنسانيه فلسطينية كانت أمميتة .. تستضمن وطنيته .. و وطنيته تستضمن قوميته .. و قوميته تستضمن عروبته ..و كان هذا الاستضمان المتأجج وعيا إنسانيا متوثبا .. هو ضمان الاستقامة و النزاهة في العمل السياسي .. هكذا – ربما – تلقينا الدرس ألاول .و احسب ان الكثيرين منا يومذاك .. استوعبوا شيئا من أبجديات الوعي السياسي و الفكري على أياد فلسطينية حانية صادقة طاهرة متنسكة في عبادة كفاحية .. مع قضية العمال السعوديين .. الذين يأكلون أنذاك فتات موائد ألسادة الامريكان في مطعم (( أبو ربع ريال )) محمد عياش ملحم ... كان من الطلائع الفلسطينية .. مثل عبد اللطيف ابو حجلة .. و عمر ابو حجلة .. الذين تناهضوا و استنهضوا للقضية العمالية في الخمسينات .. يوم كانت شركة الزيت العربية الامريكية أنذاك تستنزف نفط البلاد .. عبر عرق و دماء ألانسانية السعودية الرافلة بالبداوة .. أنذاك ...و كان من كبار الموظفيين لدى شركة أرامكو و أشهد انه ما هدأ له ضمير ولا ارتاحت له فرائض .. ولا استكانت فيه همه المناضليين .. و هو يرى بأم عينة .. عشرات الالوف من العمال يكدحون في الشمس المحرقة برواتب زهيدة .. و يشربون من المياه الحارة الملوثة .. و كان اسيادهم يشربون المياه العذبة المثلجة ... و يقبعون في مكاتبهم المكيفة بالهواء البارد ... و كان انخراطه في العمل المطلبي و السياسي .. و في النضال مع اخوته العمال السعوديين أدى إلى رفده من العمل و اخراجه من البلاد .. و كان لي في تلك الفترة أن اغادر الوطن ايضا في ذلك التاريخ من عام 1956 .و منذ 46 عاما انقطع حبل الوصل بيننا .. ألا أن نبضنا الوطني و الديمقراطي .. كان يتوهج في استمرار دون انقطاع .. عازفا على إيقاع وتيرة واحدة .. في امتداد هذه السنوات السمان العجاف .. و كان طاريه أبدا يزغرد غصون قلوبنا .. عندما تتجدد ذاكرتنا فيه وأحسب ان ذاكرته أيضا تتجدد في ذاكرة طارينا .وها هو .. بعد هذا العمر المديد .. ينتفض في تجديد ذاكرته فينا بعد لأن ذكرته الإنسانية الكبيرة و المناضلة الجليلة ( أملي نفاع ) بأن الذين استبدت بهم دروب الإنسانية التقدمية .. هم على العهد .. يواكبون مسار القافلة بعناء و إصرار .شكرا ( أملي نفاع ) ها هو صوت محمد عياش ملحم .. بعد هذه المدة الطويلة يأتي متهدجا عميقا واثقا : يضمنا بجوارحه و نضمه بجوارحنا .. و نستوي في لهيب ذاكرة ماض عزيز ..و ها نحن نستوي بين دفتي كتابه ( في خضم الحياة ) نستعيد فيه مواقفه و مواقفنا .. و في مسيره حياته ..مسيره حياتنا ...شكرا محمد ملحم ... شكرا عبد اللطيف ابو حجلة .. شكرا عمر ابو حجلة : أن نشيدكم لما يزل يتردد في عميق حياة الطيبين و الطيبات .. في هذا الوطن الوفي لعطاءات الإنسانية التقدمية في كل مكان ...


الصفحة الرئيسية