دعوني بداية أقدم لكم نفسي.أنا حاوية مخلفات (أجلكم الله) بأسماء متعددة.البعض يطلق عليّ حاوية قمامة. البعض الآخر يفضَل إسم حاوية الفضلات. هناك من إختار لي اسم "برميل الزبالة". تعددت الأسماء والوظيفة واحدة.من صفاتي أني مصنوعة من الفولاذ الصلب، وأمتلك عجلات تمكنني من التحرك إلى الأمام أو الخلف أو اليمين أو اليسار، أو الإستدارة حول ن...
قراءة الكل
دعوني بداية أقدم لكم نفسي.أنا حاوية مخلفات (أجلكم الله) بأسماء متعددة.البعض يطلق عليّ حاوية قمامة. البعض الآخر يفضَل إسم حاوية الفضلات. هناك من إختار لي اسم "برميل الزبالة". تعددت الأسماء والوظيفة واحدة.من صفاتي أني مصنوعة من الفولاذ الصلب، وأمتلك عجلات تمكنني من التحرك إلى الأمام أو الخلف أو اليمين أو اليسار، أو الإستدارة حول نفسي 180 درجة – طبعاً بدفعة من أيادي البشر.ما يمييّزني عن غيري من حاويات المخلفات التقليدية، هو أني أستشعر ما يدور حولي، ولدي أعين أرصد بها ما يجري في نطاقي، ولدي آذان تصغي لما يقال عني وعن غيري، وأملك قلبا يحب ويكره، وجسداَ يتأل يتألم ويفرح. وفوق هذا كله، فأنا مثقفة ومطلعة على التاريخ، وأستطيع أن أفهم بعض اللغات الأجنبية، وأن أقرأ وأستنتج وأحلل، وأتبين الصح من الخطأ، وأميَز ما بين الصالح والطالح، والجيد والرديء، والخبيث والحميد. مشكلتي الوحيدة تكمن في أني لا أملك لساناَ أدافع به عن نفسي في مواجهة من يتقصدون إيذائي واحتقاري.رمتني الأقدار في البحرين لأخدم مواطنيها ومن يقوم على أرضها من مختلف الجنسيات، في احتضان مخلفاتهم اليومية. والحقيقة أني أعتبر وجودي في البحرين مكسباَ لي لأنها بلد، بل تأكيد، أفضل آلاف المرات من شقيقاتها العربيات الأخريات لجهة تسامح شعبها، وانفتاحهم الأزلي على مختلف الثقافات."لكن رغم كل الميزات التي تتمتع بها البحرين، " معطوفة على ما عرف عن أهلها من كرم وتهذيب وطيبة وكياسة، "تمنيت- حالي كحال البشر الذين يتطلعون دوماَ إلى الأفضل- لو أن الأقدار رمتني في دولة متقدمة، من تلك التي يحرص شعبها على حاويات المخلفات، ويرأفون بحالها، ويلتزمون بما يفرضه الفانون حيالها، فلا يرمون كل مخلفاتهم فيها دفعة واحدة، ولا يقذفون في جوفها خليطاً غير متجانس من الفضلات...""كان وصولي إلى البحرين في منتصف التسعينات من القرن العشرين، حينما قررت الحكومة وضع حاويات صلبة جديدة في أماكن التجمعات السكنية المتفرقة، وتعاقدت لهذا الغرض مع شركة أجنبية متخصصة، كان من مهامها أيضاَ إفراغ الحاويات يومياً مما يتراكم فيها، ونقلها إلى ورشة خاصة أسبوعياً أو شهرياً أو سنوياً"فصول هذه الرواية، لئن كانت مجرد سرد لمذكرات شخصية دونتها عن رحلة الألم والمعاناة، والفرح والحبور، والسعادة والعذاب في البحرين، على مدى نحو عقدين من الزمن، فإنها في الوقت نفسه صفحات تحكي تاريخ أماكن وأزمنة وأناس وأحداث في هذا البلد، الذي قفز قفزات مشهودة سياسياً وإقتصادياً وتنموياً وثقافياً،خلال السنوات التي تشرفت بالخدمة في ربوعه.