سجل أحد خبراء المخطوطات في عالمنا الإسلامي تلك الملاحظة: كثيراً ما نصادف على ظهور الكتب تعقيدات وفوائد علمية سجلها مؤلف الكتاب أو مالك النسخة، أو أحد المطالعين فيها، على سبيل التذكير أو الاستشهاد بما فيها يعدّونه من مؤلفات. وقد تكون هذه التعقيدات تراجم لأعلام، أو ضبط تاريخ وفاة شخص، أو تحديداً لبعض المواضع الجغرافية، أو إثبات كل...
قراءة الكل
سجل أحد خبراء المخطوطات في عالمنا الإسلامي تلك الملاحظة: كثيراً ما نصادف على ظهور الكتب تعقيدات وفوائد علمية سجلها مؤلف الكتاب أو مالك النسخة، أو أحد المطالعين فيها، على سبيل التذكير أو الاستشهاد بما فيها يعدّونه من مؤلفات. وقد تكون هذه التعقيدات تراجم لأعلام، أو ضبط تاريخ وفاة شخص، أو تحديداً لبعض المواضع الجغرافية، أو إثبات كلمات مأثورة، أو أبياناً شعرية، أو فائدة لغوية، أو تصحيحاً لخطأ وقع فيما سُجِّل على غلاف النسخة، إلى غير ذلك من التعليقات والفوائد والطرف، التي تستحق العناية بتسجيلها وجمعها".وقد تنبه إلى ذلك قديماً القاضي الأكرم الصاحب جمال الدين أبو الحسن علي ابن يوسف بن إبراهيم القفطي، المتوفى سنة 646هـ. وقد كان القفطي مغرماً بالكتب إغراماً شديداً، ونافس في اقتنائها، وبذل النفيس في شرائها، وأصبحت داره في حلب قبلة الورّاقين ومقصد النساخين، يجلبون له الكتب والأسفار، وعاونه في ذلك الورّاق المشهور ياقوت بن عبد الله الحموي صاحب "معجم الأدباء"، وقد جمع القفطي مقداراً وافراً من التعليقات والفوائد والطرف التي تعود العلماء أن يضعوها على ظهور الكتب، موضوع كتابه "نزهة الخاطر ونزهة الناظر" في أحسن ما نقل من على ظهور الكتب. وهو أحد كتبه التي فقدت ولم تصل إلينا. وعلى ذلك فإن الأمر يستحق أن يخصص أحد الباحثين جهده لجمع هذه التعليقات والفوائد التي سجلها القدماء على ظهور الكتب. ويظهر أديب آخر، لا يقل حباً عن سابقه. فقد تولى رئاسة كتاب مديرية المعارف بدمشق، ثم كان مديراً للداخلية في المكتب السلطاني ببيروت، وكان عالماً أديباً شاعراً، عضواً ناشطاً في المجمع العلمي العربي بدمشق حتى وفاته.إنه الأديب الموسوعي جميل بن مصطفى العظم، الذي كان مولعاً بالشعر والكتابة، محباً للعلم والمطالعة، وله خبرة بنوادر المخطوطات، فاقتنى الكثير من نفائسها، وصارت عنده مكتبة نفيسة، عامرة بأنواع العلوم والنوادر والمخطوطات. ومن أشهر كتبه: "عقود الجوهر في تراجم من لهم خمسون مصنفاً فمائة فأكثر"، "ديوان الخليل بن أحمد الفراهيدي" جمعه وأتمه، وقد لفت نظر هذا العاشق للكتب والمخطوطات، أيضاً، ما على ظهورها من كتابات، فيها غرر الأشعار والفوائدِ، فالتقطها بعناية، ودوّنها في كتب سماه: "الصبابات فيما وجدته على ظهور الكتب من الكتابات".ومؤلف هذا الكتاب الذي هو بين يدي القارئ هو الثالث الذي نسج كتابه "الغرر على الطرر" على نفس منوال سابقيه، حيث فيه ما وجده على ظهور الكتب والرسائل من الفوائد والمسائل والأشعار، مع اختيار الأهم والعزيز دون المبتذل. ويقول المؤلف: "إن هذه الغرر على "الطرر"، فإن الطرّة لا تعني الجانب الأعلى من العنوان فقط، كما يتبادر إلى الأذهان، فالطرّة هي الجانب أو الحافّة، من أي مكان كان في الورقة. لكنني قيّدتها بما كان في أول الكتاب وآخره، فهي التي تكون ساحة لصيد الخواطر، ومرتعاً لقيد الفوائد، دون بطونها التي تتميز بالتعليق على ما جاءت في مضمون الكتاب... وليست الورقة الأولى من المخطوط بأولى من آخره، ففيه من الكتابات ما هو جميل ومؤثر حقاً، كما سيمر بالقارئ، لا تقل بحال من الأحوال عما يكتب على غلافه أو ورقة عنوانه".وقد يتجاوز المؤلف هذا الميزان، مما ذكر عن "الغرر" و"الطرر"، فينقل ما هو مفيد للقارئ هنا وهناك، وهو قليل على كل حال. وقد يجد محبو المطالعة وعاشقو التراث بين طيات هذا الكتاب، موائد جديدة ينهلون منها في هذا المجموع، ففيها الجديد من الثقافة والأدب والحكم والتاريخ، وفيها شذرات نادرة وتعليقات مفيدة، وتصحيحات لأمور غير موجودة في كتب أخرى، وتسجيل وقائع شخصية مفيدة وطريفة ذات اعتبارات، ومشاعر خاصة قد لا يبوح بها المرء إلا لكتابه، حافظ أسراره! بالإضافة إلى نكت تاريخية وتقييدات فقهية ولغوية عديدة يحبها أهل التخصص، مع ما يتخللها مما هو طريف ومسلّ. هذا عدا عن ارتياده آفاقاً جديدة في التراث، أو نوعاً خاصاً فيه لا عهد له به سابقاً.ويرى القارئ نماذج نادرة من هذه وتلك مصورة في آخر الكتاب. وقد أورد المؤلف فوائد من طُرَر (200) مخطوط وكتاب نادر، في الجزء الأول، ومثله في الجزء الثاني، انتقاها من كمّ هائل من هذه المجموعات، والمستغرب في هذا الأمر أن تنطفئ هذه العادة في أيامنا، فلا توجد كتابات مفيدة تذكر على طرر الكتب.هذا وقد حرص المؤلف، عند إيراد الفائدة، أن يذكر عنوان الكتاب المخطوط أو النادر الذي تمّ النقل منه أولاً، مع ذكر مكانه، وأحياناً تاريخ نسخه، إذا كان الناسخ هو كاتب الفائدة، واسم كاتب الفائدة إن وجد.