لا تزال العلمانية الدريئة الأساسية التي يطلق عليها جلّ المفكرين الإسلاميين والقوميين والشعبويين سهامهم النظرية، استسهالاً للوصول إلى قلوب "الجماهير" لتحقيق مكاسب غالبها سياسي.الكتاب الذي بين أيدينا محاولة من كتاب موقع الأوان لإعادة الإعتبار لمسألة العلمانية، كقضية قائمة بذاتها، وليست ملحقة بثقافة دينية او قومية او ديمقراطية - شع...
قراءة الكل
لا تزال العلمانية الدريئة الأساسية التي يطلق عليها جلّ المفكرين الإسلاميين والقوميين والشعبويين سهامهم النظرية، استسهالاً للوصول إلى قلوب "الجماهير" لتحقيق مكاسب غالبها سياسي.الكتاب الذي بين أيدينا محاولة من كتاب موقع الأوان لإعادة الإعتبار لمسألة العلمانية، كقضية قائمة بذاتها، وليست ملحقة بثقافة دينية او قومية او ديمقراطية - شعبوية، وهي أيضاً توضيح لمفهوم العلمانية في مقابل محاولات مبتسرة وخجولة من قبل أفراد علمانيين أو علمانيين (سابقاً) يحاولون تقديم العلمانية على أنها حيوان أليف يمكن تربيته في بيت إسلامي أو قوموي أو شعبوي بدون خشية من شراسته.وهكذا يسهم المفكر التونسي محمد الحداد، بلغته الرصينة الواضحة، في توضيح القيمة الأصلية العلمانية بصفتها تحييداً للفضاء العام عن سلطة العقائد المختلفة، الدينية وغير الدينيّة، ليتمكّن كلّ فرد من ممارسة حرّة لدينه أو عقيدته أو مذهبه أو فلسفته الوجوديّة في حدود فضائه الخاص وفي إطار الإحترام المتبادل بينه وبين المختلفين أو الذين لا يرغبون أصلاً في أن تكون لهم إنتماءات دينية او عقديّة او مذهبيّة، وينطلق الحداد لإيصال مفهومه عن العلمانية من مناظرتين تاريخيتين جرتا في نهايات القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، جرت أولاهما بين المستشرق الفرنسي إرنست رينان والمفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني سنة 1883، بينما جرت الثانية سنة 1903 بين مفكرّين عربيين هذه المرة هما فرح أنطون ومحمد عبده "وكان الأوّل من أكبر المتحمّسين للتجربة الفرنسيّة فيما حاول الثاني الردّ على العلمانيّة بفكرة التسامح… ومدنيّة السلطة في الإسلام بإعتبار الخليفة عند المسلمين حاكم مدنيّ من جميع الوجوه".ويرى الحداد أن هذا الموقف الذي صدر من رجل دين مسلم سنة 1903 تحت ضغط الأحداث، كان يمكن أن يتطوّر أكثر، كما تطوّر نظيره في الفكر الكاثوليكي، لو تواصل تمثيل الخطاب الإصلاحي للحساسيّة الدينيّة في المجتمعات العربيّة.بيد أنّ أفول هذا الخطاب وقيام الأصوليّة الراديكاليّة بديلاً عنه مثّلاً تراجعاً لا قرار له، قبل أن يضيف نقطة في صلب الأسباب التي أدت إلى تراجع الفكر العلماني، ألا وهي "الأدلجة القومجيّة أو الستالينيّة التي جعلتها مرادفة لمقاومة الأديان والعقائد".وبدوره يفرد المفكر السوري جاد الكريم الجباعي دراسة طويلة عن العلمانية بإعتبارها ضرورة للشعوب التي لم تفلح بعد في إنتاج حياتها النوعية دولةً وطنيةً حديثة، أو لم تفلح بعد في إنتاج شكل سياسي حديث لوجودها الإجتماعي، وبلغته الواثقة يوصل الكاتب قارئه إلى نتيجة مفادها أن العلمانية ليست صفة طارئة على الدولة الوطنية، وليست فضلاً أو منة تأتيها من خارجها، ولكنها جوهر الدولة السياسية، بل إنها أساس كونها دولة وطنية (أو قومية) وهما بمعنى واحد، في نظر الكاتب.ويؤسس الجباعي فهمه للعلمانية كواقع للدولة وليس طارئاً عليها من خط يقترحه للتطور ذي إيقاع ثلاثي: وضعي - ديني - وضعي؛ أما الوضعي الأخير فهو القانون، وهو مركب جدلي من الحدّين الأولين يجمع ما هو جوهري في كل منهما؛ العناصر العقلية (العلمانية) في الأوّل والعناصر الأخلاقية (الإنسانيّة) في الثاني.لهذا السبب يوصف القانون بأنه روح الشعب وماهية الدولة، لأنه تعبير عما هو عام ومشترك بين جميع أفراد الشعب، أعضاء الدولة، ولذلك ترتبط العلمانية والعقلانية والإنسانية ارتباطاً وثيقاً لا تنفك معه إحداهما عن الآخريَيْن، وترتبط بالديمقراطية، لأنها الصفة الجوهرية للقانون.أما الباحثة والأستاذة الجامعية رجاء بن سلامة فتسلط الضوء على جملة من الأمور التي يأخذها المرء بدءاً على أنها مسلمات، ثم ينتبه بعد النظرة الثانية إلى أنها بحاجة إلى تدقيق؛ وتُنبه أولاً إلى أن العلمانية لا تساوي فقط بين الأديان والمؤمنين بها، ولكن أيضاً بين المؤمنين وغير المؤمنين، وهؤلاء جميعاً توحّدهم العلمانيّة المأمولة، لأنّها مبدأ حياد مشترك هو جوهر السّياسيّ.فالعلمانيّة تساوي بين هؤلاء المختلفين لأنّها لا تعتمد مرجعيّة ودينيّة ومذهبيّة خاصّة، ولا تفاضل بين مسلم وغير مسلم، ولا بين مؤمن وغير مؤمن، بل هي تساوي بينهم وتوحّدهم بإعتبارهم متشابهين وأحراراً بالولادة.كما تنتبه بن سلامة إلى أن العلمانيّة ليست ديناً، وليست رأياً، بل هي الإتّفاق المبدئيّ على إمكان تعدّد الآراء، وجواز تعدّدها، وجواز إختلافها إختلافاً يمكن أن يبقى إختلافاً لا رجعة فيه؛ وتزيد أن نقيض العلمانيّة تبعاً لذلك ليس الإسلام بل الأصوليّة بإعتبارها إيديولوجية شموليّة، ونقيض العلمانيّة أيضاً هو منظومة الفقه الإسلاميّ بإعتبارها منظومة شموليّة.وتنتهي إلى رأي مفاده أنه إذا كان الحوار بين الطّرفين الخصمين يقتضي إيجاد أرضيّة مشتركة، فإنّ هذه الأرضيّة المشتركة هي العلمانيّة نفسها بإعتبارها دفاعاً عن المشترك الجامع بين المختلفين؛ فمبدأ الحوار موجود في العلمانيّة نفسها ولا نحتاج إلى فرضه بمقترحات التّوفيق بين ما لا يمكن التّوفيق بينه، أو بمقترحات العزل الطّائفيّ والمجموعاتيّ التي تنسف السّياسيّ بإعتباره تقاسماً للمشترك.إلى ذلك أسهم كل من عبد الرزاق عيد رواتب شعبو وسلامة كيلة بإضاءات كانت لازمة للجوانب المتعددة وشديدة التركيب والغنى للفكر العلماني العربي، الذي، ويا للمفارقة، يعاني الان من خصومة وعداوة ما لم يعانه في فجر نشوئه مع نهايات القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين.ويضيف إتيان محجوبيان، الكاتب الأرمني التركي الذي قضى غدراً في عام 2007، نكهة إضافية إلى الكتاب، كونه يعبر عن وجهة نظر في بلد جار وإن لم يكن عربياً؛ وإضافة مجوبيان تأتي عندما يصف بلده تركيا بأنها بلد غير علماني بالأصل؛ "علينا أن ندرك أيضاً"، يقول الكاتب التركي، "أن عبارة "تركيا" علمانية، وستبقى كذلك" التي هتف بها المتظاهرون، لا علاقة لها، في حقيقة الأمر، بالعلمانية.ذلك لأن تركيا ليست أصلاً "علمانية"، الأصح أنها تعتقد أن العداء السلطوي/ الدولتي للدين هو العلمانية، لذلك فإن عبارة "ستبقى تركيا علمانية" لا تحمل إلا معنى أن "تركيا ستبقى كما هي" أي أن العقلية السلطوية/ الدولتية باقية.بين أيدينا، إذن، كتاب يحاول أن يسد ثغرة في سوء فهم العلمانية، وفق تعبير سلامة كيلة، أحد المساهمين في هذا الحوار.