إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:فإن من طبيعة الحياة البشرية الاجتماع، ومن طبيعة البشر التفاوت والاختلاف في كل شيء، ولاسيما في مجال الدين والخلق...
قراءة الكل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:فإن من طبيعة الحياة البشرية الاجتماع، ومن طبيعة البشر التفاوت والاختلاف في كل شيء، ولاسيما في مجال الدين والخلق، كما قال سبحانه: ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ﴾ [يونس: 19][1]. وكل مجتمع لا يكاد يخلو من مؤمن وكافر، وتقي وفاجر، على تفاوت بين المجتمعات. ومن هنا كان على المسلم أن يتفقه في أحكام التعامل مع تلك الفئات كلها، وأن تكون لديه المعايير الثابتة التي يزن بها التصرفات بأنواعها، وبها يحب ويبغض، ويوالي ويعادي. ولعل من أبرز الفئات تلك: الكفار؛ لما لها من أحكام خاصة ومختلفة عن أحكام المسلمين. ولذلك نجد القرآن العظيم زاخرًا وحاشدًا بالآيات التي تفصل العلاقات والمعاملات معهم، ولاسيما في المجال الفكري والديني. والمتأمل فيه يلحظ أن الموقف منهم جاء على مرحلتين:المرحلة الأولى: العهد المكي، وجملة الموقف منهم يتلخص في:أ- المفاصلة الشعورية أو تنافر القلوب بين المؤمنين والكافرين. ب- الهجر الجميل، أو المقاطعة للكفار.كما في قوله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10]. جـ- أمر المؤمنين بالصبر على الأذى.كما في الآية السابقة، وكما في قوله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النحل: 127]. د- الأمر بالعفو والصفح.كما في قوله تعالى: ﴿ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزخرف: 189]. هـ- الأمر بكف اليد وعدم القتال.كما في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ [النساء: 77][2] الآية. و- الاستمرار في الدعوة والنذارة. كما في قوله: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94]. المرحلة الثانية: العهد المدني، ويتلخص الموقف في:أ- تمييز المسلمين واستقلالهم في إقليم، وإعلان وحدتهم. ولذلك تكاملت التشريعات والأحكام العملية مع قصر هذا العهد. ب- المواجهة مع الكفار، بالقوة البيانية، والقوة الاجتماعية، والقوة المادية. جـ- تشريع الجهاد. وبه تحددت العلاقة مع الكفار على اختلافهم، هذا مع أن الجهاد نفسه جاء تشريعه على مراتب كما يقول ابن القيم[3]: "فقد أذن الله بالقتال بعد الهجرة لمن يقاتل فقط. ثم أمر بقتال المشركين حتى يكون الدين لله، ثم أمر بالبراءة من المشركين ونبذ عهودهم المطلقة. فاستقر أمر الكفار مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام:محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة. د- منع موالاة المؤمنين للكافرين مطلقاً. وفي هذا البحث سيرد آيات كثيرة منها. ذلك بإجمال شديد الموقف القرآني من الكفار. ولا أظن أن الموقف المكي قد نسخ، بل إنه باق تطبق عليه الحالات المشابهة، كالمسلم الذي يعيش بين الكفار. وكذا إذا كان المسلمون في حالة ضعف وهوان - ولا أستبعد أن يكون وضع المسلمين الراهن كذلك في معظم الأقطار- فلهم أن يتخذوا الموقف نفسه عند الاضطرار. أما إذا كانوا أعزة وجب عليهم اتخاذ الموقف المدني. ولقد تصورت أثناء كتابتي لهذا البحث هذا الوضع الأعز أو وضعًا فيه عزة[4]، فانطلقت منه في تقرير الموقف من الكفار، وهو موقف يتخذ طابعي: القوة والتسامح في آن واحد. وهو بلا شك الموقف الذي اتخذه المسلمون في عصور العزة والقوة منذ الهجرة النبوية، ومرورًا بعهد الخلفاء الراشدين، وانتهاء بمن نهج منهجهم كما في عهد عمر بن عبد العزيز وغيره. وهنا تبدو أهمية الموضوع (فقه التعامل مع غير المسلم) وضرورة عرضه ودراسته في جانبي الفكر والدعوة؛ وعلى وجه الخصوص: ما يتعلق بالاحتساب على الكفار والمعاهدين في دار الإسلام، فإنه موضوع ذو أهمية خاصة؛ ولاسيما أنك لا تكاد تجد فيه مؤلفات مستقلة[5]. هذا مع الاعتراف بما ينطوي عليه الموضوع من صعوبة في بعض قضاياه. غير أن مما شجعني على الكتابة فيه أخوة فضلاء في الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هم بدورهم يواجهون تلك الصعوبات والعقبات. وإنني إذ أشكر لهم حسن ظنهم أدعو لهم ولكافة زملائهم بالتوفيق والتسديد، فإنهم على ثغرة عظيمة، وأي ثغرة! وإذا كان من الافتراض توجيه الخطاب في هذه الصفحات إلى عموم المسلمين في أي مكان، وهو كذلك بالفعل، إلا أن بلدًا كهذه البلاد - المملكة العربية السعودية - ينبغي أن يكون لها مزيد اختصاص، أمور ثلاثة رئيسة:أحدها: أنها جزء من جريرة العرب - معدن العروبة والإسلام. حيث تشكل الجزء الأكبر منها كما هو معروف. وحسبنا وجود المقدسات الطاهرة فيها. الثاني: أن القيادة في هذه البلاد رعاها الله ترفع راية الإسلام، وتفخر بالانتماء إليه. الثالث: أن هذه الدولة تنفرد بوجود رئاسة مسؤولة عن الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعاملتها لغير المسلمين أنموذج يحتذى بين البلاد الإِسلامية، سواء الجانب النظري التنظيمي، أو الجانب العملي. وعلى الرغم من وضع الضوابط النظامية المتينة في دخولهم هذه البلاد، إلا أن أعدادهم مازالت باطراد، نظرًا لما تعيشه الميلاد من نهضة حضارية شاملة. ومن هنا كان لابد من الفقه بطبيعة التعامل مع هؤلاء وأحكامه، كي تتضافر الجهود - الرسمية والفردية - في الاستفادة من مئل هؤلاء بما لا يضر بمصالحنا ومبادئنا وقيمنا، ثم محاولة درء ما يحصل منهم - أو يتوقع حصوله - من مفاسد وتجاوزات ومخالفات. وأخيرأ أختم بما ختم به الفيروز آبادي مقدمة قاموسه "الله أسأل أن يثيبني بهذا جميل الذكر في الدنيا وجزيل الأجر في الآخرة، ضارعًا إلى من ينظر من عالم في عملي أن يستر عثاري وزللي، ويسد بسداد فضله خللي، ويصلح ما طغى به القلم، وزاغ عنه البصر، وقصر عنه الفهم، وغفل عنه الخاطر. فالإنسان محل النسيان، وإن أول ناس أول الناس، وعلى الله التكلان".