باتت الهويات الصغرى وحروبها في عالمنا العربي اليوم شؤماً على المواطن بصورة عامة؛ وحتى على أصحاب تلك الهويات بصورة عامة، والكاتب إلى هذا يشير في كتابه هذا، وفي أكثر من موضع، إلى ما أحدثته الحزبية الإقصائية بكل أشكالها الدينية والإيديولوجية والقافية، وهو يعني بذلك تلك التشكلات الإجتماعية القائمة على مبدأ معين والمسجونة فيه، إلى در...
قراءة الكل
باتت الهويات الصغرى وحروبها في عالمنا العربي اليوم شؤماً على المواطن بصورة عامة؛ وحتى على أصحاب تلك الهويات بصورة عامة، والكاتب إلى هذا يشير في كتابه هذا، وفي أكثر من موضع، إلى ما أحدثته الحزبية الإقصائية بكل أشكالها الدينية والإيديولوجية والقافية، وهو يعني بذلك تلك التشكلات الإجتماعية القائمة على مبدأ معين والمسجونة فيه، إلى درجة تجبر كل العالم أن تكون رهينة له.وفي كتابه هذا الذي جاء على شكل مقالات يحاول الكاتب تسليط الضوء على بعض هذه الأحزاب التي تنضوي تحتها مسميات مختلفة شاعت في يومنا هذا إبتداء من التيارات الدينية والفكرية والسياسية والإجتماعية والتي تبيج لنفسها الإعتداء على الفكر الآخر ومحاولة إلغائه.يسعى الكاتب ومن خلال أسلوب نقدي بناء إلى بيان كيفية مقاومة هذه الحزبية ذات المحتوى التجزيئي الهدام وآلية التصدي لتصنيفاتها الإعتباطية، وقد كتب في إحدى مقالاته وتحت عنوان "نظرية المؤامرة... طبعة جديدة" ما يلي: الحديث عن نظرية المؤامرة لا يخلو دوماً من مؤامرة ضد الذين يروجونها أو دعماً لهم!...العقلانيون الواقعيون الذين يستعيبون تعاطي هذه النظرية التشكيكية وتوظيفها في تفسير الأحداث وتحليلها، يسعون عادة لتفكيك نظرية المؤامرة من خلال نظرية مؤامرة أخرى... معاكسة لها في الإتجاه ومساوية لها في القوة، وأحياناً تفوقها قوة، والمهووسون بنفي نظرية المؤامرة بالمطلق لا يقلّون سوءاً وخطراً عن المهووسين بإثباتها دوماً وبجعلها وحدها مفسر الأحداث.ويعتبر جلال أمين أن لا عيب في ما يسمى بنظرية المؤامرة إلا اسمها! فــ"نظرية المؤامرة" اسم قبيح لعملية عقلية مشروعة تماماً، وهي البحث عن تفسير لظاهرة لا يساعد في فهمها ما نراه أو نسمعه من تفسيرات، ونظرية المؤامرة ليست هوساً عربياً، كما يزعم بعض "المستنيرين" العرب، بل هي وسيلة إنسانية قديمة لتفسير غوامض الأحداث التي كانت توصف آنذاك بالكيدية قبل أن يطغى اسم المؤامرة في العصر الحديث... طغت نظرية المؤامرة في الإعلام والثقافة الغربيين قبل عقود من وصولها إلى الخطاب الثقافي العربي...العرب لا يقلون مهارة عن الغربين في دعم نظرية المؤامرة بتطبيقات جديدة ومبهرة، تعززها قدرة الخيال العربي المعهودة على نسج الحكايات الجذابة، التصق تعاطي نظرية المؤامرة في المنطقة العربية خلال العقود الماضية بالخطاب الإسلامي أكثر مما سواه؛ وقد فسر البعض هذا التزاوج بسبب الرجعيات الثقافية للفصيل الإسلامي، وظللنا العقود نؤمن بهذا التفسير جتى جاءت أحداث الربيع العربي ثم انفجرت أحداث مصر فإذا بالفصيل الليبرالي "المستثير" يستلم راية نظرية المؤامرة من الفصيل الإسلامي وينطلق ليقاتل بها وسط الحشود، فملياً عن كل ما كان يدعو إليه الفصيل الآخر من قبل، من ضرورة الإلتزام بأخلاقيات حرية التعبير تحت ظل الواقعية والشفافية والتدقيق في المعلومة والبعد عن التهويل الظلامي والنشويه السوداوي.نشرت صحيفة عربية أن حسن البنايهوري مغربي زرعته الماسونية لهدم الإسلام من خلال تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، وتحدث إعلامي مصري في إحدى القنوات الفضائية أنه اكتشف أن الإخوان المسلمين هم سبب سقوط الأندلس!.وضع أحد الكتاب تقريراً يثبت فيه أن اليهودي الفرنسي برنار هنري ليفي هو قائد الثورات في الربيع العربي والمخطط لها، وأعلن أكاديمي سعودي أن صحيفة "الفارويان" البريطانية تدار الآن من قبل الشيخ القرضاوي وأنه هو الذي يحدد مواقفها وتوجهاتها... ويتابع الكاتب قائلاً: "... تلك نماذج لا أوردها على سبيل التهكم والسخرية فهي حقيقية وموجودة في مصادرها، هذا عدا عن الحكايات الكثيرة المحبوكة ضد أشخاص وإتهامهم بالعمالة والتعاون مع جهات خارجية والتخطيط لضرب وحدة وطنهم لمجرد أنهم يرون رأياً غير الذي يراه أولئك "النظر تآمريون".فبعد أن كانت أميركا خلف كل شر في هذا الكون كما كان يرى التآمريون القدامى، أصبح الإخوان المسلمون الآن هم الشيطان الأكبر كما يرى التآمريون الجدد... وينهي مقالته بالقول: إذاً فالنكوص إلى نظرية المؤامرة وتفسير الأحداث كافة من خلالها وهو نقيصة فكرية ليست حكراً على فصيل ثقافي بعينه في العالم العربي، ولا مرجعية ثقافية أو إيديولوجية وحيدة، بل هو مرتبط إرتباطاً وثيقاً بضعف الثقافة أو بضعف الذمة، وكلاهما من العيوب المتوافرة في مجتمعاتنا العربية، تزيد وتنقص بالتداول بينهما وفق سياق الأحداث ونوع المنافع المرجوة منها...إنه نوع من أنواع التصنيف، حتى ولو أنه لم يأخذ شكل من أشكال التكتل الإجتماعي أو السياسي فهو يعد شكل من أشكال التصنيف للإقصاء، والذي يستخدم للتعريض لا للتعريف، والذي يشكل آفة تنهش وحدة المجتمع، وأحياناً تتفاقم بالوصول إلى مفاصل الأسرة؛ وهي فوق هذا، تعطل قدرة المجتمع على مراجعة أوضاعه ومناقشة أفكاره في سبيل الإصلاح النشوء دوماً والتطوير المستدام، أو الذي هكذا يجب أن يكون.وكما يذكر الدكتور رضوان السيد كتاب زياد الدريس الصغير هذا عصي عن التصنيف... فهو ينتقل بالقارئ ومن إختراق إلى إفتراق، فهو ليس ليبرالياً ولا متشدداً ولا سلفياً ولا غير سلفي، ولا حزبياً ولا غير حزبي... هل هذا هروب؟ نعم، هروب إلى الحرية، وهي الحرية المسؤولة التي لا تحددها غير إنسانية الإنسان، ففي زمن "الهويات القاتلة" بحسب أمين معلوف، تتكاثف وتتقاتل "الهويات الصغرى" بحيث لا يبقى للمرء إذا أراد أن يبقى إنساناً إلا الخروج منها وعليها، منتصراً لعقله وإنسانيته...