تعد السياسة الشرعية مجالاً رحباً للجمع بين التأصيل العلمي والقراءات التنزيلية في الواقع المشهود، ويظهر ذلك جلياً في كثير من المساهمات التي قدمها علماء الإسلام في هذا الإطار، حيث تبرز قضية التأصيل للوقائع والحوادث المستجدة، ويقل النظير والمماثل من السوابق والمقدمات التنظيرية والتاريخية، وهذا ليس غريباً باعتبار أن السياسة الشرعية تدور في غالب مضامينها مع دلائل الاجتهاد، وتكون ألصق بالمصالح المرسلة منها بغيرها عند غياب الاعتبار والإلغاء في الدليل الشرعي ومستخرجاته الحكمية، دون أن يكون لها انفصال عن قواعد الشريعة وكلياتها؛ كونها الضابطة لها عن الزلل والخطل والخروج عن مقتضى الشريعة وخطابها الإلهي، فهي بهذا الاعتبار تجمع طرفين متلازمين كسائر الفروع والتخصصات ذات الارتباط بالشريعة وكلياتها ومقاصدها، الطرف الأول الخطاب المطلق الذي من شأنه أن ينزل في المجتمع الإنساني هادياً له في الصراط المستقيم الذي وضعه له شارعه ومبلغه، فهذا الخطاب من هذه الجهة بحاجة إلى التنزيل في الواقع البشري لضبط أنظمة الحياة بمختلف صورها وتشعباتها. وبتأمل يسير في آيات التنزيل يدرك المرء أنه أمام آيات مركزية يلزم المجتمع الإنساني طلب هداياتها ومضامينها ومكنوناتها، قال تعالى جامعاً بين طلب الهداية إلى الصراط المستقيم وبين إجابته من قبل الباري سبحانه: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾[1]، ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾[2]، فأنت ترى أن آية الفاتحة سيقت مساق الدعاء والطلب، إلا أن الإجابة على الدلالة والبيان لا تحتاج إلى كبير تأمل وعظيم جهد في الوصول إليها، فالله جعلها مصرحاً بها في آية البقرة، حيث نبه الإنسان على مسلك الهداية، فهذا القرب بين الطلب والإجابة دليل على شريعة اليسر التي يقوم عليها المنهج الرباني، إلا أن الآية نفسها فيها معنى الحصر والقصر لمن رام تتبع مسالك الهداية والرشاد في الخطاب القرآني وبيانه النبوي، وأيضاً ما دلت عليه آيات الاتباع في سياقاتها الموضوعية، مثل قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾[3]، وقوله تعالى: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾[4]، وقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴾[5]، وقوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾[6]، ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾[7].. في آيات آخر، والظاهر في مضامين هذه الآيات وأمثالها قضية الاتباع للشرع والإعراض عنه، ومآلات كل منهما في الدنيا والآخرة، وطرف آخر هو الواقع الإنساني المشهود الذي يحتاج إلى الاسترشاد بالهدى الإلهي والخروج من أزمة العقل الإنساني الذي حاول بعد تخليه عن الوحي المطلق إيجاد مطلق آخر يكون بديلاً عن الوحي المطلق، وبذلك تأله العقل الإنساني، وأخطر ما جنى على البشرية حين أضحى العقل مولداً للمفاهيم الذاتية دون أن يكون له مرجعية ضابطة فأورد البشرية في مهالكها ومصائبها وبئس الورد المورود، وعليه فإننا بحاجة إلى إعادة العلاقة بين النص والواقع في إطار جدلية حركية تظهر التداخل بين عالمي الغيب والشهادة، فبالجمع بين العالمين في إطار العلاقة الجدلية بينهما يستطيع الإنسان الخروج من أزماته، ولا مخرج منها إلا باتباع الهدى الإلهي وبيانه النبوي. والسؤال الذي يثار في هذا السياق: ما موضع السياسة الشرعية من هذا التوصيف والتأصيل المجمل؟فنقول:قد نبهنا في سياق مقدمتنا إلى أن غالب السياسة يدور مع دليل المصالح المرسلة، والعلة في ذلك أن مضامينها ومفاصلها دائرة مع الاجتهاد المبني على قاعدة المصالح مع مراعاة التغاير في الأزمنة والأمكنة والأحوال، ودورانها مع المصالح المرسلة يعني أنه لا توجد نصوص مفصلة صريحة في ضبط المفهوم وتفصيلاته الجزئية، وهذا يتيح بطبيعة الحال مساحة عريضة لأهل النظر والاجتهاد في التعامل مع الوقائع المستجدة ومتطلبات المراحل الزمنية التي يمر بها المسلمون سواء في إطار نظامهم الداخلي أو في إطار علاقاتهم الخارجية. وقد نبه المحققون من أهل العلم على هذا الأصل عند خوضهم في مفهوم السياسة، فيقول ابن القيم في طرقه الحكمية: " قال ابن عقيل في الفنون: جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية: أنه هو الحزم. ولا يخلو من القول به إمام. فقال شافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع. فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي. فإن أردت بقولك: إلا ما وافق الشرع. أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح. وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط، وتغليط للصحابة. فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن. ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف، فإنه كان رأياً اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة "[8]، فهذا النقل مظهر للمنهجية التي اتبعها الأصحاب في تبني مواقفهم السياسية، حيث نظروا إلى القواعد الضابطة لأي موقف يتخذه المسلمون عند إدارتهم لنظام الدولة الإسلامية، وهذه الحقيقة تشير إلى أن تفاصيل المواقف السياسية للدولة الإسلامية بكل ما تشمله هذه العبارة من معان تركت أصلاً لكي يختار فيها المسلمون ما يوائم العصور والظروف المختلفة، فليس في أي من مسائل هذه التفاصيل نص ملزم يجب على المسلمين اتباعه مهما اختلفت الظروف وتباعدت الأزمان[9]، ومقصودنا بالنص هنا النص الفقهي الذي عبر عنه الفقيه والمجتهد باعتبارات عصره وزمنه من خلال النظر إلى الخطاب الشرعي وقواعده الكلية ومقاصده الشرعية العامة، فما قدمه الفقيه لا يعدو كونه انعكاساً للواقع الذي عايشه وإن جعل مرجعه قواعد الشريعة وكلياتها، والناظر في مفهوم السياسة الشرعية حين يقصد تأصيله لمقتضيات واقعه لا بد من أن ينطلق من مرجعية مطلقة تتجاوز حدود الزمان والمكان يستخرج مكنونها بما يتناسب وقواعد التنزيل دون أن يتجاوز أو يتجاهل ما قدمه علماء الأمة من تراث سياسي إسلامي، وإنما شأنه معه النظر في الصالح من مضامينه وصلاحيته للواقع المعاصر، بهذا تكتمل المنهجية في السياسة الشرعية من حيث مرجعيتها، ومن مظاهر الخلل الجمود على المنقولات وتوارد الأقوال دون ربطها بمرجعيتها المطلقة. وقد أفضى ذلك إلى نوع من الفصام في الخطاب الإسلامي المعاصر، فتنظيرهم في واد والواقع في واد آخر، وقد نبه علماؤنا إلى هذا الخلل المنهجي الذي تلبست به كثير من أجيال المسلمين المعاصرة، وفي هذا يقول القرافي: "الجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضين "[10]، وإذا كان الحديث عن المنقولات بهذه الحيثية حيث لا إلزام في تبني مضامينها، فمن باب أولى الحديث عن الفعل السياسي التاريخي والمواقف السياسية التي اتخذها المسلمون في عهودهم المختلفة، فإنها كانت انعكاساً لمصالح الأمة المتناسبة والمتوافقة مع أبعادها الزمانية والتاريخية، إلا أنه لا يغيب عن الذهن عند قراءة مضامين الفعل السياسي التاريخي وما ارتبط به من مواقف النظرُ في البعد المنهجي الذي استند عليه ذلكم الفعل، وعليه فإن على الفقيه السياسي المعاصر أن يأخذ بنظر الاعتبار البعد المنهجي لهذا الفعل وليس تقمص مضامينه؛ لأننا في إطار منهجية الاتباع وليس منهجية التقليد والمحاكاة. ويلزم الباحثَ في هذا السياق التفريق بين القواعد الضابطة للسياسة الشرعية وبين ما ترك للأمة النظر فيه بما يتناسب ومتطلبات كل مرحلة من مراحلها الزمنية، فالقواعد الضابطة تؤخذ من محضنها الشرعي حيث الخطاب القرآني والبيان النبوي والاستئناس بالنماذج التاريخية في عهود المسلمين الغابرة، وما سوى ذلك متروك للمجتمع المسلم ترتيبه وتنظيمه وفقاً للمصالح الزمنية التي يقتضيها واقعه في كل مرحلة، وإزاء ذلك، فإن ما يدور في الساحة الفكرية حول قضايا متعلقة بالسياسة الشرعية من أمثال: قضية وقتية الحكم، والتدوال السلمي للسلطة، ومبدأ الفصل بين السلطات، والتعددية السياسية، لا بد من ضبطه في إطار المنهجية التي تم تقريرها حيث الدوران بين القواعد الشرعية الضابطة والنظر المصلحي الزمني المتوافق معها. قواعد المرجعية:ويمكننا قبل النظر في مدى شرعية هذه القضايا الوقوف على القواعد الشرعية الضابطة من خلال تتبع مضانها في النصوص الشرعية المطلقة كتاباً وسنة، مع التنبيه على أن مفهوم السياسة الشرعية لا يتعلق بعدد معين من النصوص بل إن المنهجية المعرفية التي يقوم عليها الخطاب الإلهي بكل تفاصيله تعد مرجعاً للمفهوم؛ بحكم كونه قائماً على قاعدة المصالح المقتضية للتغيير وفقاً لكليات الشريعة ومقاصدها، وبهذا يزال الإشكال حول بعض الاستدراكات والتساؤلات الهامشية التي تثار حول مدى التنصيص على مفهوم السياسة ووجوده في مضامين ومفاصل النصوص الشرعية، وفيما يأتي جملة من القواعد الضابطة للمفهوم الموصوفة بالإطلاق التي يدور معها كل ما يتعلق بالفعل السياسي الإسلامي ومواقفه التفصيلية الخاضعة لبعدي الزمان والمكان:أولاً: قاعدة التوحيد:وهذه القاعدة تمثل القيمة المقاصدية الأعلى والأغلى في المنهج الإلهي، وكل مشروع سياسي لا بد أن يكون مستحضراً لهذه القاعدة، وإلا كان خارجاً عن دائرة الهداية الإلهية، ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء للاستدلال لهذه القاعدة، إذ دل عليها الكثير من آي القرآن ونصوص السنة النبوية، والقارئ للقرآن في سياق ترتيبه الذي انتهى إليه بتوقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك سياق ترتيبه التنزيلي، يجد هذه القاعدة ظاهرة في التنصيص، ويكيفنا دليلاً وإشارة قوله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾[11]، فهذه الآيات التي تعد أول القرآن نزولاً بالاتفاق قد قررت التوحيد، وبينت معالمه، ومفاصله، ودلائله؛ لتكون جديرة بأولوية التنزيل، ولتكون منطلقاً لغيرها من الآيات المماثلة والمقاربة من حيث سياقها الموضوعي، ومن المعلوم عند أهل النظر في القرآن أن غالب الآيات المكية قد دار مع قاعدة التوحيد وأخذت حيزاً كبيراً من دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الحديث عن الأحكام وما يرتبط بها من قواعد عملية؛ كل ذلك ليدلل على أهمية هذا المقصد الكلي وضرورة استحضاره في دعوات التغيير المجتمعي، ويأتي التساؤل في هذا السياق حول مدى ارتباط مفهوم السياسة الشرعية والفعل السياسي الإسلامي وما يتعلق به من مشاريع بهذه القاعدة المقاصدية العليا؟ والحقيقة لا إشكال في إظهار وجه الارتباط، إذ أن مفهوم السياسة الشرعية دائرة مع قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، حيث تقرر عند المتخصصين أن السياسة الشرعية هي القيام على الأمر بما يصلحه شرعاً، وقاعدة التوحيد تمثل الإصلاح بكل معالمه ومضامينه، والمتصفح للقرآن يدرك ذلك جلياً، حيث التأكيد على دفع ورفع كل ما يناقض هذه القاعدة وينافيها من مظاهر الشرك, والكفر, والإلحاد, والانحراف، وعليه فإن على كل المشاريع السياسية أن تكون منطلقة من هذه القاعدة ولتجعلها أصلاً في منهجها ودعوتها. ثانياً: قاعدة الاستخلاف:تقوم قضية الاستخلاف على محاولة تحديد العلاقة بين المستخلِف (الله - سبحانه وتعالى -) والمستخلَف (الإنسان) والمستخلَف فيه (الكون)[12]، وهذه العلاقة تحددها بدقة آيات الاستخلاف، فيقول سبحانه: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾[13]، فالآية في سياق حوار بين الخالق سبحانه والملائكة الكرام حول قضية الاستخلاف القرآني وقد أظهرت هذه القضية أن للإنسان غاية في الحياة هي تحقيق الخلافة في الأرض، وبهذا أضحت مهمته واضحة جلية وارتبط بها التكليف وعليه يحاسب يوم القيامة، ويظهر فيها أثر الارتباط بينها وبين قضية التوحيد، فالاستخلاف في حقيقته يصب في التوحيد ويعد جزءاً من مفاصله ومضامينه، وهو من جهة أخرى يعد من أفراد مفهوم السياسة الشرعية؛ لكونه انعكاساً لقاعدة الإصلاح، ويشكل في الوقت ذاته دليلاً على أحقية المسلم للحضور بعد الوجود. ثالثاً: قاعدة العمران:وهو يمثل المهمة التي أوكلت للإنسان بعهد الاستخلاف، وهو الغاية التي سخر الله الكون كله للإنسان من أجل تحقيقها، قال تعالى: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾[14]، وبذلك تتحقق مضامين العهد، ولا شك أن الإنسان يستمد من سنن الكون وقوانينه ما تقوم به الأدلة على إثبات وجود الخالق، وبتدبر هذه السنن يتم استنباط ما يتناسب مع الفطرة التي فطر الله الخلق عليها، فنبني عليها ما يجعلنا قادرين على الاستجابة لنداء الفطرة التي فطرنا الله عليها، والاستماع إلى نداءات ودعوات المرسلين، فيتظافر القرآن المجيد والسنة النبوية والفطرة الانسانية لتحقيق الهداية والتزكية، وبناء العمران الذي هو انعكاس للهداية وروح العبادة على الكون المسخر، وبذلك يتحول الإنسان إلى قائد لمسيرة التسبيح التي يمارسها كل شيء في الكون بالتوجيه التلقائي، ما عدا الإنسان الذي يمارس ذلك بحريته واختياره، وبهذا التأصيل يعمر الإنسان الأرض بالإيمان والعمل الصالح وبكل ما يترتب عليه صلاح الأرض بعد إصلاحها من قبل الباري سبحانه، وانظر في سياق الآية كيف يظهر الارتباط بين قضية التوحيد وقضية إعمار الأرض، حيث تلتقي قواعد السياسة الشرعية في حراسة الدين وسياسة الدنيا به. رابعاً: قاعدة التزكية:وهي من القيم القرآنية العليا، وقد جعلها الله وظيفة أساسية من وظائف الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهي بهذا الاعتبار تعد قسيمة للتلاوة وتعليم الكتاب والحكمة، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾[15]، والملفت للنظر عند البحث في السياق الموضوعي لمفهوم التزكية يدرك أنه يتجاوز قضية التحلي بالآداب والسلوكيات المعروفة والمتداولة، وهي داخلة بلا شك في مفهوم التزكية المسوقة في النصوص ومرادة في دلالاتها، إلا أنها أعم من هذا الوجه الذي شاع عند الكثير، ويتوافق ما ذهب إليه الباحث مع ما قصده الراغب في ذريعته إذ يقول: "والفعل المختص بالإنسان ثلاثة أشياء:• عمارة الأرض في قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾[16]، وذلك تحصيل ما به تزجية المعاش لنفسه ولغيره. • وعبادته المذكورة في قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾[17]، وذلك هو الامتثال للباري عز وجل في أوامره ونواهيه. • وخلافته المذكورة في قوله تعالى: ﴿ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾[18]، وغيرها من الآيات؛ وذلك هو الاقتداء بالباري سبحانه على قدر طاقة البشر في السياسة باستعمال مكارم الشريعة. ومكارم الشريعة هي الحكمة، والقيام بالعدالة بين الناس، والحلم، والإحسان، والفضل، والقصد منها أن تبلغ إلى جنة المأوى، وجوار رب العزة تعالى. وكل ما أوجد لفعل ما فشرفه بتمام وجود ذلك الفعل منه، ودناءته بفقدان ذلك الفعل منه"[19]. لقد أعطى الراغب لمفهوم التزكية المعنى الأوسع الذي دلت عليها نصوص الخطاب، وبها يمكن إعادة القيمة للجانب التزكوي الذي فقد من خلال اختزاله في جملة آداب وسلوكيات مطلوبة إلا أنها قاصرة عن القيام بمفهوم التزكية بمعناه الشامل، والنظر في بعض النصوص النبوية يوقف بوضوح على القيمة التي قصدها صاحب البيان عليه الصلاة والسلام بتلقيه القرآن وتجسيده في نفسه وفي غيره خلقاً يمشي على الأرض كما دل عليه قول عائشة رضي الله عنه حين سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: "كان خلقه القرآن "[20]، وتأكيده على الجانب المقاصدي من وراء بعثته ونبوته، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق "[21]، وقوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "[22]، فتأكيده عليه الصلاة والسلام على هذا الجانب بصيغة تشعر حصر المقصد في إتمام الأخلاق دليل على عظم المكانة التي يتبوأها مفهوم التزكية، بما يجعلها حاملة منهج متكامل في الحياة الإنسانية يوقفها على مختلف مجالاتها العقدية، والعبادية، والمعاملاتية. خامساً: قاعدة الشورى:وهذه القاعدة تعد أولاً انعكاساً للاهتمام بأمر الأمة بجميع مكوناتها، وثانياً جزءاً من كينونة الإنسان ذاته باعتباره صاحب نشأته الأولى، ولا عجب بعد ذلك أن نجد السياق القرآني يعطي الأهمية لهذا المفهوم بدلالة ربطه بمقومات منهجية أصيلة في المنهج الإلهي، قال تعالى: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾[23]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾[24]، وإذا كانت الآية الأولى مرتبطة بسياق الجهاد واتخاذ قرارات الحرب، فإن الآية الأخرى جعلت المفهوم في سياق أصول الإسلام وأركانه حيث الاستجابة لله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، من هنا وبدلالة الاقتران يتبوأ مفهوم الشورى الأهمية العظيمة في سياق المفاهيم المؤسسة للنظام الإسلامي، إلا أنه يلزم إعادة قراءة المفهوم بما يتناسب وواقع المسلمين المعاصر، إذ يحتاج بهذا الاعتبار إلى بيان مجالاته، وتحديد ضوابط أطرافه - أعنى المستشير والمستشار - على خلفية الحق والواجب، فضلاً عن تحويل هذا المفهوم إلى مؤسسات منضبطة، والانفتاح على التاريخ الإسلامي والإنساني؛ من أجل تحصيل القدرة على الإبداع المنضبط في رعاية مفهوم الشورى، وتنشئة فقه الشورى المؤسسي، النابع من روح الإسلام، والقادر على تجسيدها في جسد أنظمة العمران الإنساني، وفق اعتبارات الزمان والمكان، ويستدعي في الوقت ذاته التأسيس للشورى الجماعية، والدخول في ساحة الترتيب المنضبط للأولويات، والمؤسس على ترتيب القيم، وعدم إغفال الواقع، والتمييز بين إلزام الورى في حالات، وعدم إلزامها في حالات أخرى، فالأمور المصيرية بالنسبة إلى الأمة لا تحتمل بأي حال مقولة الشورى المعلمة لا الملزمة[25]، والمسلمون اليوم بحاجة إلى إعادة النظر في فعل الأمة بجعله في إطار التفاعل الجماعي بعيداً عن الرؤى الانفرادية والاختزالية في شخص واحد أو مجموعة قليلة تتحكم في مصير الأمة وأفرادها. سادساً: قاعدة العدل:وهذه القاعدة قد جاء التنصيص عليها في الخطاب القرآني في سياقات نصية متعددة وفي مضامين مختلفة، كلها دالة على الأهمية التي تستبطنها قاعدة العدل، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾[26]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾[27]، وقال أيضاً: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾[28]، وقال أيضاً: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾[29] .. في آيات أخر، وكما هو ظاهر في الآيات من سياقاتها النصية أن العدل ليس قيمة سياسية فحسب، بل هو كذلك قيمة منهجية في كل صور الحياة وتفاعلاتها، ويكفيك دليلاً في هذا ما رواه البخاري في صحيحه من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: أعطاني أبي عطية. فقالت عمرة بنت رواحة لا أرضى حتى تشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال: " أعطيت سائر ولدك مثل هذا ". قال: لا. قال: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"[30]. والسؤال هنا كيف يكون النظر إلى العدل؛ كونه قيمة سياسية عليا في النظام السياسي الإسلامي؟وظاهر من مضمون هذا السؤال أن هناك تقريراً بأن العدل يمثل القيمة العليا في تحليل أهداف الوجود السياسي، وقد حقق ذلك الفكر السياسي الإسلامي وتقاليد الممارسة السياسية الإسلامية، بل وأكثر من ذلك أن مراجعة عملية البناء السياسي الإسلامي تفصح عن أن قاعدة العدل ظلت دائماً هي المحور في نظام القيم السياسية، ويعضد ذلك ما استعرضناه من نصوص قرآنية ونبوية في التدليل على أهمية هذه القاعدة، وبناء على ذلك فإن التصور السياسي الإسلامي يؤكد في ظل هذه القاعدة على ما يأتي[31]:أولاً: أن مفهوم العدالة بمعنى الصلاحية للحياد وعدم التحيز وحسن التقييم هو شرط من شروط أي ممارسة للسلطلة، وهو ليس قاصراً على ولاية القضاء بل هو يتعدى ذلك لكل إمامة أو ولاية، قال الماوردي: "وأما أهل الإمامة فالشروط المعتبرة فيهم سبعة: أحدها العدالة على شروطها الجامعة"[32]. ثانياً: أن العدالة ليست فقط شرطاً مرتبطاً بالصلاحية للمارسة القيادية، وإنما هي أيضاً عنصر من عناصر استخدام السلطة أياً كان قدرها أو مقدارها. بعبارة أخرى: هي شرط فيمن يختار ليتولى السلطة بل هي شرط يجب أن يظل قائماً أثناء ممارسة السلطة وفي جميع مراحل تلك الممارسة، يقول الماوردي: "أما أهل الاختيار فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة: أحدها العدالة الجامعة لشروطها"[33]. ثالثاً: العدالة كمفهوم تمثل إحدى خصائص النظام السياسي المثالي - كما عبر ربيع -، فكلمة السياسة العادلة هي الصفة المتداولة في الفقه السياسي الإسلامي للتعبير عن النموذج المثالي، وهي التي يصفها ابن خلدون بأنها تلك التي تعني إسعاد الأمة والعمل على تحقق مصالحها[34]، وهذا مقتضاه أن الرقي في مراتب الحضارة الإنسانية وفقاً للمنهج القرآني لا يتحقق إلا بقاعدة العدل، ولا قيام ولا دوام للدولة مع الظلم والجور، وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، دون أن يكون مقصودهم قطعاً أن النموذج المثالي لا يمكن تحقيقه في دائرة الإمكان، إذ إن المثالية المقصودة هي المثالية المخالفة للواقعية التي غاب عنها مفهوم العدالة، أو قد تم تأصيل مفهوم للعدالة يتنافي تماماً مع مقتضيات الخطاب الإلهي، ولا حاجة للتدليل على أمثال هذه التأصيلات في ظل الأنظمة الديمقراطية التي يزعم مؤسسوها أنها راعت المفهوم بما يدلل على صلاحية النظام في ذاته وصلاحيته للتعميم خارج بنائه الفكري وبيئته المؤسسة له. سابعاً: قاعدة الاختيار واللاإكراه:هذه القاعدة تعبير عما يؤكد عليه المنظرون في السياسة سواء الشرعية منها أو الوضعية في قضية الحرية، وقد جعلت قيمة من القيم السياسية العليا في السياسة الوضعية، والباحث في هذا السياق يؤكد على أن الحرية بحق تندرج في إطار قاعدة العدل لو قدمت الضمانة على تحقيقها في الواقع التنزيلي، ومع هذا فإن التأكيد عليها في مواطن التقعيد يعد أمراً مستساغاً بل مطلوباً للحيلولة دون لمز الخطاب الإسلامي باحتكار الشرعية[35] في الساحة السياسية، على رغم أن التاريخ السياسي المعاصر ووقائعه امتداداً إلى حاضرنا قد شهدت على الذي احتكر الشرعية وقام بكل ما يملكه من وسائل مشروعة وغير مشروعة للحيلولة دون تحقيق قاعدة الحرية التي يتشدق بها الوضعيون وأنصارهم، إلا أن التعبير الذي يراه الباحث موافقاً للقواعد الشرعية ومعبراً عن ضمائمها هو الاختيار وليس الحرية؛ وهذا الذي تشهد به نصوص الشريعة ومضامينها سواء كان ذلك عن طريق التصريح بمشروعية الاختيار أو طريق الإشارة، وتتجلى جميعها تصريحاً من حيث سياقها الموضوعي في قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾[36]. ووجه الارتباط من حيث السياق بين آية الإكراه وآية الكرسي أن ما اشتملت عليه آية الكرسي من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن شوائب ما كفرت به الأمم، من شأنه أن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضح العقيدة، المستقيم الشريعة، باختيارهم دون جبر ولا إكراه[37]، إذ أن قضية العقيدة كما جاء بها هذا الدين قضية اقتناع بعد البيان والإدراك، وليست قضية إكراه وغصب وإجبار، وفي تقرير هذه القاعدة يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه[38]، وإذا كانت قضية العقيدة تدور في إطار قاعدة الاختيار واللاإكراه، فإنها تنعكس ولا شك على مفاصل حياة الإنسان في كيفية اختياره لنمط حياته السياسي والاقتصادي والاجتماعي ..إلخ، وعليه فإن كل نص جاء في الشريعة يحمل في أثنائه ما يقرر قاعدة الاختيار، فإنه يندرج في إطار العلاقة بين مفاهيم المنظومة الكلية الضابطة، ولا يعني تقرير قاعدة الاختيار بأن يكون هناك إقرار بالمعاصي والمخالفات، وإنما جاء ذلك تعبيراً عن كون الإنسان مختاراً في كيفية إدارة شؤون حياته، إلا أنه في مقابل ذلك يلزم التقرير بأن سوء الاختيار تعبير عن اختلال المعيار والميزان عند المرء يترتب عليه تذكيره وتقويمه بموجب قواعد وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بناء على ذلك فإن قضية الاختيار واللاإكراه كما أنها تكون مكفولة بالقواعد الشرعية الكلية، فإنها أيضاً منضطبة بها، بحيث لا تؤدي إلى اختلال النظام العام والإفضاء به إلى المفاسد وفوات المقاصد الضرورية، ولذلك فإن القواعد الشرعية نفسها تحيل قضية الاختيار إلى قاعدة أخرى لها اعتبارها الكبير في نظر الشارع ووحيه، وهي قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعلوم أن هذه القاعدة تدور في إطار المفاهيم الكلية، فيندرج تحتها الإطار السياسي؛ لكونه مرتبطاً بتفاعلات المجتمع الإسلامي من حيث ضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤكد كعهد المفاهيم الإسلامية المقاربة له منهجاً وحركة على شمول المفهوم لكافة أنماط الحركة، فكما أنه واجب على الفرد، فهو واجب على الجماعة أن تمارسه، وهو أحد المفاهيم ذات الانعكاسات السياسية إذ أن فيه التزاماً سياسياً يقع على عاتق الفرد والجماعة والأمة، إلا أن الأمر لا يقف عند الالتزام السياسي، ذلك أن المفهوم تتشارك فيه جوانب أخرى لا تقل أهمية، أقصد بها الجوانب الاجتماعية والفكرية والحضارية، وهي بمجموعها تشارك في إرساء شرع الله تطبيقاً ودعوة وتبليغاً، وهذا المفهوم في حقيقته يشتمل على مجموعة من الضمانات وكذلك الشروط والمقتضيات، وعلى الفرد فضلاً عن الجماعة أن يمارسه في إطار تلك الضمانات أو بعبارة أدق في إطار القواعد والشروط النظامية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[39]؛ فإن ذلك يضمن السلامة الحركية التي يسير فيها المفهوم في الإطار التنزيلي، وبهذا التقرير تجري قاعدة الاختيار واللاإكراه في إطار منظومة مفاهيمية متوازنة تحفظ مسار النظام السياسي الإسلامي وتفاعلاته دون أن يكون هناك تعسف في نظر أو تنزيل على المخالف لمرجعية هذا النظام أو معتقده.وخلاصة القول:فإن السياسة الشرعية تنضبط بقواعد كلية ومقاصد عامة يلزم اعتبارها عند النظر في تأصيل مضامينه وتنزيل جزئياته في الواقع المنظور، وعند تحققها في أصولها وجذورها التنظيرية، تتبقى مساحة عريضة من النظر في الفعل السياسي ومواقفه المختلفة والمتباينة تكون في دائرة العفو من حيث سعة الأخذ بمقتضيات الواقع المعاصر وما تمليه الواقعات والنازلات من مستلزمات الرؤى في ضوء القواعد الشرعية المتقدمة، وخاصة في صورها الوسائلية، وأحكامها المرتبطة بالمصالح المعتبرة، والأفكار المبنية على أعراف المجتمعات وتقاليدها عندما يكون العرف دائراً مع الشرع حيث دار لا ينقض أصوله وقواعده ولا يعود عليها بالإبطال، ومعلوم أن منطقة العفو تكون دائرة الاجتهاد والنظر فيها واسعة بحيث تفتح المجال لمراعاة مقتضيات الواقع الذي يعيشه المجتمع الإسلامي في كل مرحلة من مراحله الزمنية، والحق أن تجاهل مثل هذا التأصيل المنهجي يجعل النظر في متغيرات السياسة الشرعية مشكلاً؛ بسبب عدم تحرير قواعدها وثوابتها المنهجية، وخاصة في ما يتعلق بقضية الحكم وتوقيته من حيث استمرارية الحاكم في حكمه وما يسمى بأخرة بالتداول السلمي للسلطة، وقضية الأنظمة الداخلية المكونة للنظام السياسي، كما هو الحال بالنسبة لمسألة الفصل بين السلطات، وكون الشورى معلمة أو ملزمة، من هنا كان لزاماً على الباحث تحرير هذه القضايا في ضوء القواعد العامة الضابطة لمفهوم السياسة الشرعية، والعلاقة بين ثوابت المفهوم ومتغيراته. متغيرات السياسة الشرعية ومساراتها المنهجية:تنطلق هذه المسائل والقضايا من حيث إطارها المرجعي كما أشرنا من قبل من قاعدة المصالح، ذلك أن الفعل السياسي الإسلامي في مرحلة التأسيس لم يكن يستند على نماذج محددة من نظم الحكم، بل ترك ذلك تفويضاً للأمة للوقوف على وسائل ضبط الدولة والحكم فيها باستحداث صور للنظم السياسية بما يتناسب والواقع التاريخي لكل مرحلة، وعليه فإن ما شهدته المرحلة اللاحقة لوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أشكال الأنظمة السياسية لا يعدو كونه اجتهاداً قام به المسلمون الأوائل استناداً على قاعدة المصالح والقواعد الشرعية الكلية الضابطة، وتبقى صوراً يستأنس بها في المراحل اللاحقة عندما تكون صالحة للتبني، فإذا استحدث المسلمون أنظمة سياسية تتوافق مع المراحل الزمنية في ضوء القواعد الشرعية الكلية وقاعدة المصالح، فإن ذلك يعد أمراً مستساغاً بل قد يكون مطلوباً؛ كونه واجب الوقت في تلك المرحلة، ومن القراءات الحسنة في هذا الإطار توصيف الأشكال السياسية للأنظمة وما يرتبط بها من سياسات في إطار الشروط الجعلية التي تتوافق عليها الأمة وليست شروطاً شرعية[40]، بحكم كونها زمنية نسبية وليست مطلقة بحيث تتجاوز الزمان والمكان، وبهذا تكون الأمة مفوضة في تشكيل النموذج الصالح للمرحلة طالما أنه منضبط بالقواعد الكلية، ومثل هذا التقرير ينطلق على قضية التدوال السلمي للسلطة وقضية الفصل بين السلطات والتعددية السياسية وأمثالها، والحق أن أمثال هذه القضايا عند تقرير القواعد والكليات الضابطة وبيان الأطار المرجعي الذي تتأسس عليه وتندرج تحته، لا حاجة للخوض في تفاصيلها إلا بالقدر الذي يزيل الإشكالات المنهجية والحركية، أما الغوص فيها دون أن تكون هناك مسوغات ومبررات، فإنه سيفضي إلى الإنشغال بالجزئيات عن الكليات، وبالفروع عن القواعد، لكن ببيان القواعد وكلياتها وأطرها المرجعية يصبح الخوض في الجزئيات منضبطاً، وما أحسن ما قرره القرافي في فروقه، إذ يقول: "ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع، واختلفت وتزلزت خواطره فيها، واضطربت وضاقت نفسه لذلك، وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها، ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره"[41]، وعليه فإن الخوض في أمثال هذه المسائل بالمنطق التجزيئي الفروعي يفضي بلا شك إلى تناقض في الرؤى وتعارض وتقابل في المواقف، وإن كانت هناك سعة لتبني هذا الرأي أو ذاك بحكم وحدة الإطار المرجعي، وعلى هذا الأساس نقرر بأن أي فعل سياسي لا يكتسب الشرعية إلا باعتبارين[42]:الأول: شرعية التأسيس، بمعنى موافقة الأصول العقدية للسياسة الشرعية، فالسياسة كمفهوم عام لا تنفصل بحال من الأحوال عن المعنى الذي تعترف لنفسها به، ولا عن القيم التي تسعي إلى إقامتها والمقاصد التي تحاول تحقيقها، والأسس المعرفية التي تمثلها ومنها تنطلق. فالسياسة هي خلاصة لأصول عقدية أفصحت عن ذاتها من خلال علاقتها بها، ومن المتعذر فصل السياسة عن أي من عناصرها الحضارية التي تنطلق منها، ولا وجه بعد هذا التقرير للتأكيد على قضية العلاقة بين الدين والسياسة؛ لأن السياسة بهذا الاعتبار الذي تقرر جزء من الدين، وهي تمثل منهج العدل كما أشار إلى ذلك ابن القيم في طرقه الحكمية. ثانياً: شرعية المقصد أو المصلحة، بمعنى أن سعي السياسة لتحقيق مصالحها يرتبط بعدم مخالفة منطوق جزئي ثبت بدليل عام شامل، فإن حركة السياسة في تعبيرها عن المصالح يجب أن تكون في إطار تحقيق تلك المصالح في كلياتها وضوابطها، ولكن ليس على حساب أي من عناصرها أو القيم العليا. ففاعلية السياسة تقاس بمدى قدرتها على تحقيق مقاصدها دون أن تصاب بالانكسار أو بإفساد بعض عناصرها الأساسية. فقه التنزيل عند العلماء:وقد كان للعلماء المحققين دورهم في تأصيل هذه المسائل في ضوء هذين الاعتبارين، وصنيع الباحث لا يعدو أن يكون نقلاً لتأصيلاتهم وآرائهم المتعلقة بهذا الشأن في إطار المنهجية التحليلية، ولا شك أننا نصدر عن العلماء ومناهجهم الأصولية طالما أنها منضبطة بقواعد الشريعة وكلياتها ومقاصدها. أولاً: العلاقة بين الحاكم والمحكوم:من القواعد الهادية التي استخلصها العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس من الفقه السياسي الإسلامي – وخاصة خطبة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في شأن حق الأمة في مساءلة الحاكم ومدى وجوب الطاعة ما يأتي[43]:الأصل (1): لا حق لأحد في ولاية أمر من أمور الأمة إلا بتولية الأمة، فالأمة هي صاحبة الحق والسلطة في الولاية والعزل، فلا يتولى أحد أمرها إلا برضاها، فلا يورث شيء من الولايات ولا يستحق للاعتبار الشخصي. الأصل (2): الذي يتولى أمراً من أمور الأمة هو أكفؤها فيه، لا خيرها في سلوكه، فإذا كان شخصان اشتركا في الخيرية والكفاءة، وكان أحدهما أرجح في الخيرية، والآخر أرجح في الكفاءة لذلك الأمر، قدم الأرجح في الكفاءة على الأرجح في الخيرية، ولا شك أن الكفاءة تختلف باختلاف الأمور والمواطن، فقد يكون الشخص أكفأ في أمر وفي مواطن لاتصافه بما يناسب ذلك الأمر، ويفيد في ذلك الموطن، وإن لم يكن كذلك في غيره، فيستحق التقديم فيه دون سواه. الأصل (3): لا يكون أحد بمجرد ولايته أمراً من أمور الأمة خيراً من الأمة، وإنما تنال الخيرية بالسلوك والأعمال. الأصل (4): حق الأمة في مراقبة ولي الأمر؛ لأنها مصدر سلطتهم، وصاحبة النظر في ولايتهم وعزلهم. الأصل (5): حق ولي الأمر على الأمة فيما تبذله من عون إذا رأت استقامته، فيجب عليها أن تتضامن معه وتؤيده، إذ هي شريكة معه في المسؤولية. الأصل (6): حق ولي الأمر على الأمة في نصحه وإرشاده، ودلالته على الحق إذا ضل عنه، وتقويمه على الطريق إذا زاغ في سلوكه. الأصل (7): حق الأمة في مناقشة أولي الأمر، ومحاسبتهم على أعمالهم، وحملهم على ما تراه هي لا ما يرونه هم، فالكلمة الأخيرة لها لا لهم، وهذا من مقتضى تسديدهم وتقويمهم عندما تقتنع بأنهم على باطل، ولم يستطيعوا أن يقنعوها أنهم على حق. الأصل (8): على من تولى أمراً من أمور الأمة أن يبين لها الخطة التي يسير عليها، ليكونوا على بصيرة، ويكون سائراً في تلك الخطة عن رضى الأمة، إذ ليس له أن يسير بهم على ما يرضيه، وإنما عليه أن يسير بهم فيما يرضيهم. الأصل (9): لا تُحكم الأمة إلا بالقانون الذي رضيته لنفسها، وعرفت فيه فائدتها، وما الولاة إلا منفذون لإرادتها، فهي تطيع القانون؛ لأنه قانونها، لا لأن سلطة أخرى لفرد أو جماعة فرضته عليها، كائناً من كان ذلك الفرد، وكائنة من كانت تلك الجماعة، فتشعر بأنها حرة في تصرفاتها، وأنها تسير نفسها بنفسها، وأنها ليست ملكاً لغيرها من الناس، لا الأفراد ولا الجماعة ولا الأمم، ويشعر بهذا الشعور كل فرد من أفرادها، إذ هذه الحرية والسيادة حق طبيعي لها، ولكل فرد من أفرادها. الأصل (10): الناس كلهم أمام القانون سواء لا فرق بين قويهم وضعيفهم، فيطبق على القوي دون رهبة لقوته، وعلى الضعيف دون رقة لضعفه. الأصل (11): صون الحقوق: حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، فلا يضيع حق ضعيف لضعفه، ولا يذهب قوي بحق أحد لقوته عليه. الأصل (12): حفظ التوازن بين طبقات الأمة عند صون الحقوق، فيؤخذ الحق من القوي دون أن يقسى عليه لقوته، فيتعدى عليه حتى يضعف وينكسر، ويعطى الضعيف حقه، دون أن يدلل لضعفه، فيطغى عليه، وينقلب معتدياً على غيره. الأصل (13): شعور الراعي والرعية بالمسؤولية المشتركة بينهما في صلاح المجتمع، وشعورهما دائماً بالتقصير في القيام بها ليستمرا على العمل بجد واجتهاد. والقراءة الموضوعية في هذه المبادئ والقواعد والأصول تعطي دلالات متعددة ينبغي اعتبارها عند النظر في قضايا الحكم الإسلامي، ذلك أنها تثير بما تضمنته من مفاهيم كيفية ضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأهم ما أشارت إليها كون العلاقة بينهما هي علاقة مشاركة وتفويض ووكالة، دون أن يترتب على ذلك استعلاء بالحكم على الأمة، ولنا في هذا التقرير أسوة حسنة بالخلفاء الراشدين الذين أعطوا للأمة صورة مثلى للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، كانت بحق أنموذجاً مثالياً واقعياً مقارنة بأمثاله في مراحل تاريخية لاحقة، فهذا الصديق أبو بكر - رضي الله عنه - يقول بعد مبايعته بالخلافة: "فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني"[44]، فأعطى للأمة الحق في مراقبة الحاكم وتقويمه عند الزلل والخطل، والنظر إلى الأمة على أنها سواء أمام شرع الله وحكمه، وقد جعل شيخ الإسلام ما قاله الصديق قاعدة من قواعد الحكم، حيث قال: "فهذا من كمال عدله وتقواه، وواجب على كل إمام أن يقتدي به في ذلك، وواجب على الرعية أن تعامل الأئمة بذلك، فإن استقام الإمام أعانوه على طاعة الله تعالى، وإن زاغ وأخطأ بينوا له الصواب ودلوه عليه، وإن تعمد ظلماً منعوه بحسب الإمكان"[45]، والمنع الذي أشار إليه ابن تيمية قد جاء مبيناً في تقرير العلامة ابن عثيمين حين سئل عن مسألة الإنكار العلني على الولاة، فقال: "إذا رأينا أن الإنكار علناً يزول به المنكر ويحصل به الخير فلننكر علناً، وإذا رأينا أن الإنكار علناً لا يزول به الشر، ولا يحصل به الخير، بل يزداد ضغط الولاة على المنكرين وأهل الخير، فإن الخير أن ننكر سراً، وبهذا تجتمع الأدلة، فتكون الأدلة الدالة على أن الإنكار يكون علناً فيما إذا كنا نتوقع فيه المصلحة، وهي حصول الخير وزوال الشر، والنصوص الدالة على أن الإنكار يكون سراً فيما إذا كان إعلان الإنكار يزداد به الشر ولا يحصل به الخير"[46]. ثانياً: تأقيت الحكم والتداول السلمي للسلطة:وأما قضية جعل الحكم مؤقتاً بوقت، أو ما تسمى في السياسة المعاصرة بالتداول السلمي للسلطة، فيمكن تأطيرها بإطار العلاقة بين المطلق والنسبي، أعني به العلاقة ما بين الغيب والشهادة، وبتعبير آخر أكثر وضوحاً ما بين الوحي الإلهي والتجارب الإنسانية المحكومة به، ولا بد من التنبيه على أن النظم السياسية التي وجدت في العهد الأول لا تعدو كونها تنظيماً اجتهادياً لرئاسة الدولة الإسلامية أملته الظروف الموضوعية التي مر بها المسلمون الأوائل، نعم قد وقع الإجماع من العلماء على مشروعية هذه الأنظمة وبعضهم ألزم الناس بها، إلا أن الأمر بخلاف ذلك، إذ يرى الباحث أن الإجماع المنعقد لا يخرج المسألة عن قاعدة المصالح التي تتغير اعتباراتها بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال، ولذلك يعد القول بتأبيد عقد الحاكم دون أن يكون للأمة الحكم الفصل فيها خروجاً عن مقتضى النصوص ومقاصدها وقواعدها الكلية، فالأمر الذي ينبغي أن يقرر في هذا السياق أن قضية تأبيد الحكم وتأقيته متروكة للأمة وخياراتها في ضوء قانونها العام الذي ارتضته مرجعاً لها – نعني به الشريعة الإسلامية الحاكمة -، وهذا التقرير لم يكن خافياً عن المحققين من أهل العلم، إذ يقول العلامة ابن عثيمين: " جعل الولاية مقيدة بسنوات، هذا طيب، حتى يختبر وينظر، وكم من إنسان لا نظن أنه أهل، فيكون أهلاً، وكم من إنسان يكون بالعكس، نظنه أهلاً ويكون غير أهل، نظن أن هذا الرجل ملتزم، ونظنه يقوم بالواجب، فإذا به يعجز، يكون ضعيفاً فلا يستطيع أن يقوم بالواجب. وهذا ليس عقد إيجار، هذه ولاية، لكن يقدر بأربع سنوات أو ثلاث أو خمس، حسب ما تقتضيه المصلحة "[47]، فالقضية إذن أن مسألة تأقيت الحكم وتداول السلطة مفوضة للأمة تختار فيها ما يحقق المصلحة الراجحة؛ لأن الإمامة والولاية عقد سياسي شرعي، والتأقيت والتداول مسألة سياسية إجرائية مندرجة تحت قاعدة الشروط الجعلية في الولاية، فهذه القضية الجزئية تؤخذ بالاعتبار في ضوء كلياتها، فكون الحكم مؤبداً أو مؤقتاً ليس مقصوداً لذاته، فهو لا يعدو كونه وسيلة من وسائل تنظيم الدولة الإسلامية، ويغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد. آليات الانتخاب بين الحظر والإباحة:ويلزم من اختيار الأمة توقيت الحكم، اتخاذ وسائل لإدارة ما يستجد من وقائع ترتبط بهذا الإطار من الحكم، والغالب أن وسيلة الانتخاب هي المتبعة في النظم المعاصرة، وهي بلا شك من وسائل النظم الديمقراطية، وهي محل خلاف كبير من فقهاء العصر ، ومرجع الخلاف الاختلاف في تصور الطريق الموصل إلى قيام الدولة الإسلامية وتحكيم شريعة الله[48]، ولا تخرج القضية بهذا الاعتبار عن كونها من مسائل الاجتهاد التي لا يسوغ فيها الإنكار على المخالف، وكان الأساس الذي استند عليها المانعون من المشاركة أنها تعكس الفلسفة الديمقراطية في الحكم والسياسة، إذ تكون مرجعية الحكم فيها لغير كتاب الله، بل تكون لأغلبية الأصوات، وهذا يتعارض مع نصوص كلية وقواعد شرعية عامة، كقوله تعالى: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾[49]، وقوله: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾[50]، في آيات أخر، بالإضافة إلى أنها صور مستحدثة لم تكن معهودة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يسعه اتباعها مع وجود دار الندوة في مكة، كما أن المشاركة قد تكون مسوغة لوصول أغلبية غير مسلمة عبر الانتخابات، بحكم الإقرار بالتعددية السياسة التي تكون تبعاً لتغاير الأديان والآيديولوجيات، والحق أن هذه النصوص وما ارتبط بها من عوارض المنع لا تنهض دليلاً على حظر المشاركة في الانتخابات من وجوه[51]:الوجه الأول: لا تلازم بين المشاركة البرلمانية والاعتقاد بأن مرجعية الحكم لغير الله، فقد تكون المشاركة بهدف تحكيم شرع الله وتحويل الفكرة إلى قانون وتشريع ملزم. الوجه الثاني: المشاركة البرلمانية تعد استثماراً للأعراف والقوانين المتاحة والممكنة سبيلاً للتمكين، مثلما استثمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعراف العرب من جوار وتحالف لحماية الدعوة. الوجه الثالث: أن أحتمالية وصول أغلبية غير مسلمة عبر الانتخابات وإن كان أمراً وارداً، لكنه لا يعني رفض المشاركة لتحقيق أهداف الدعوة، ثم إن الغالب في الأحزاب المعارضة للخطاب الإسلامي لا تستطيع التصريح بالخروج عن الشريعة، بحكم كون دستور البلاد محكوم بشريعة الإسلام في غالبه، كحال اليمن والسودان وغيرها. وهنا لا بد من التمييز بين الفلسفة التي تستند عليها الديمقراطية، وبين آلياتها، فالأخيرة لا تعدو كونها وسائل لتحقيق الأهداف، وعند تبني هذه الوسيلة للترشيح في ظل النظام السياسي الإسلامي واختيار نواب العامة، فإن هذا لا يخرج عن المنهجية المقاصدية الكلية، فالوسائل كما أشرنا سابقاً لا تدخل في دائرة التوقيف، وشأن الانتخاب تنظيم الإجراءات في اختيار الممثلين للعامة، مع تقريرنا بأن يكون للنظام السياسي الإسلامي وسائله الخاصة في إدارة إجراءاته المتعلقة بقضية الاختيار، ولكن طالما أن المتاح هو وسيلة الانتخاب المعهودة، فلا حرج عند ذلك من اتباعها طالما أنها لا تخرج عن إطار الوسائل، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، وهذا التقرير كان له حضوره عند العلماء المحققين وإن كان بدرجات متفاوتة في الحكم. فقد سئلت اللجنة الدائمة برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: هل يجوز التصويت في الانتخابات والترشيح لها، ومع العلم أن بلادنا تحكم بغير ما أنزل الله؟ فأجابت: " لا يجوز للمسلم أن يرشح نفسه رجاء أن ينتظم في سلك حكومة تحكم بغير ما أنزل الله، وتعمل بغير شريعة الإسلام، فلا يجوز لمسلم أن ينتخبه أو غيره ممن يعملون في هذه الحكومة، إلا إذا كان من رشح نفسه من المسلمين، ومن ينتخبون يرجون بالدخول في ذلك أن يصلوا بذلك إلى تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام، واتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على نظام الحكم، على ألا يعمل من رشح نفسه بعد تمام الدخول إلا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية "[52]. بل قد ذهب العلامة ابن عثيمين إلى أبعد مما ذهبت إليه اللجنة الدائمة، وقد كثر النقل عن الشيخ من قبل طلابه في تجويز المشاركة والدخول في المجالس النيابية، فحين سئل رحمه الله عن حكم الانتخابات الموجودة في الكويت، وكان سياق السائل يدور مع تخطئة بل تبديع المجيزين، قال مقرراً: "أنا أرى أن الانتخابات واجبة، يجب أن نعين من نرى أن فيه خيراً، لأنه إذا تقاعس أهل الخير من يحل محلهم؟ أهل الشر! فإذا قال قائل: اخترنا واحداً لكن أغلب المجلس على خلاف ذلك. نقول: لا بأس، هذا الواحد إذا جعل الله فيه بركة، وألقى كلمة الحق في هذا المجلس، سيكون لها تأثير ولا بد، لكن ينقصنا الصدق مع الله ..."[53]، ويروي عنه الشيخ عبد الرزاق الشايجي عندما تكرر عليه السؤال حول ملابسات الدخول إلى هذه المجالس، وحقيقة الدساتير التي تحكم وكيفية اتخاذ القرار، فكان قوله في ذلك: "ادخلوا، أتتركوها للعلمانيين والفسقة ؟"، وهذه إشارة منه إلى أن المفسدة التي تتأتى بعدم الدخول أعظم كثيراً من المفسدة التي تتأتى بالدخول إن وجدت[54]. وتقترب من هذا التقرير رؤية العلامة أحمد محمد شاكر حيث ضمن خطابه الذي وجهه إلى علماء الأزهر في السادس من ربيع الأول سنة 1360هـ الموافق الثالث من أبريل سنة 1941م، قوله: "وإذ ذاك سيكون السبيل إلى ما ينبغي من نصر الشريعة، السبيل الدستوري السلمي: أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة، ولئن فشلنا مرة فسنفوز مراراً، بل سنجعل من إخفاقنا، إن أخفقنا في أول أمرنا، مقدمة لنجاحنا، بما سيحفز من الهمم، ويوقظ من العزم، وبأنه سيكون مبصراً لنا مواقع خطونا، ومواضع خطئنا، وبأن عملنا سيكون خالصاً لله وفي سبيل الله، فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها، طاعة لربها، وأرسلت منا نوابها إلى البرلمان، فسيكون سبيلنا وإياكم أن نرضى وأن ترضوا بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم، كما تفعل كل الأحزاب، إذا فاز أحدها في الانتخاب، ثم نفي لقومنا إن شاء الله بما وعدنا، من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة .. "[55]. فأنت ترى عمق الفقه المنهجي الذي تحلى به هؤلاء العلماء عند تنزيل الأحكام، ويظهر جلياً منهج الاعتبار، حيث يعتبر العلماء النظائر واللوازم والنقائض عند بحث المسائل وتأصيلها وتنزيلها، فكما هو ظاهر أن النظر الأول يفضي إلى المنع من المشاركة في العملية السياسية؛ إلا أن النظر الثاني والعبور إلى النصوص المماثلة والمقاربة ولوازمها ونقائضها واعتبار المصالح والمقاصد الكلية، كلها تأخذ بالاعتبار الحكم بالجواز بل قد تصل بالأمر إلى القول بالإيجاب عندما تكون هذه الوسيلة هي المتاحة دون غيرها لتحقيق مقاصد الدعوة الإسلامية، وفي اعتبار هذا المنهج يقول الشاطبي: "فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس، وهو منتهى المجتهدين بإطلاق، وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد"[56]، ويقول كذلك في إثبات أهمية الاعتبار بالأدلة الكلية ومقاصدها وجمع الأشباه والنظائر استدلالاً على القواعد المقاصدية الثلاث: "يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرة شرعاً بالدليل الشرعي القطعي، وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر هو روح المسألة .. ودليل ذلك استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي، الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة .. فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص، ولا على وجه مخصوص، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات، والمطلقات والمقيدات، والجزئيات الخاصة، في أعيان مختلفة، ووقائع مختلفة، في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه، حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة"[57]، فهذه منهجية المحققين من أهل العلم في الاستدلال والاستنباط واستخراج الأحكام من قواعد الشريعة وكلياتها وجزئياتها في إطار الاعتبار بها بالربط ما بين النظائر واللوازم والنقائض في كل باب من أبواب الشريعة. ثالثاً: التعددية السياسية:يمكن القول إن التعددية السياسية لها تعلق بقاعدة من قواعد المرجعية، وهي قاعدة الاختيار واللاإكراه، فالأصل الذي وضعته الشريعة أن الإنسان يمتلك الاختيار في تدينه وتحديد فكره ومنهجه، قال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾[58]، لكن هل هذا الأصل ينسحب على القول بجواز التعددية السياسية في الدولة الإسلامية؟ والسؤال هنا يتضمن قيدين للبحث، ينبغي اعتبارهما عند النظر في أصل المسألة، إذ تم تقييد القضية في إطار الدولة الإسلامية[59]، وحيث كانت الدولة تستند على الشريعة كأصل وأساس للتشريع والسيادة، فإن على رعايا الدولة أن يكونوا خاضعين لمقتضى الشريعة، وبهذا الاعتبار تدخل قضية التعددية السياسية في الحكم الشرعي جوازاً ومنعاً، ومن المهم تصور المفهوم قبل الخوض في تفاصيله الحكمية، فالتعددية السياسية معناها قيام أحزاب سياسية تهدف إلى الوصول إلى الحكم وتسيير أمور الناس وإدارة شئونهم وشئون الدولة بعامة حسب تصور الحزب الحاكم واعتقاده، فإذا وصل حزب سياسي للحكم هيمن على شئون الدولة وساس الناس ببرامجه وسياسته التي كان يبشر بها ويعد الناس بتطبيقها، وأصبحت بقية الأحزاب معارضة لحكم الحزب الحاكم تناقش سياسته وتراقبه وتحاسبه وتعمل لأن تقنع الرعية بصواب برامجها وصحة سياستها وأهليتها للحكم[60]، وماهية هذه الأحزاب لا تخرج عن إطارين: الأول أن تكون أحزاباً إسلامية، والثاني أن تكون أحزاباً غير إسلامية، وهذا التوصيف المجمل للإطارين يغني عن بيان مضامين هذه الأحزاب من حيث أهدافها ووسائلها وبرامجها، والنظر في هذه القضية من حيث الحكم وما يترتب عليه من فقه تنزيلي يكون باعتبارين:الاعتبار الأول: النظر الشرعي، ومقتضاه من حيث الأصل تحريم الأحزاب السياسية، سواء كانت أحزاباً إسلامية أو غير إسلامية، إذ من شأن تأسيس هذه الأحزاب تفريق الأمة وتشرذمها وتفتت أجزائها والتنازع بين أفرادها، حيث تراعى المصالح الشخصية في الغالب، ويسود خلق التعصب والحزبية الضيقة على حساب وحدة الأمة والحفاظ على الجماعة من التفرق، قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾[61]، وقال أيضاً: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾[62]، وقال أيضاً: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾[63]، ودلت على هذا الأصل أحاديث جمة، فقد روى الآجري في باب ذكر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بلزوم الجماعة وتحذيره إياهم الفرقة جملة من الأحاديث المتعلقة بالباب، منها حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد"[64]، في أحاديث أخر دالة على لزوم الجماعة وعدم التفرق. ولكن قد يشكل على هذا التأصيل كون الدولة الإسلامية قد تبيح تأسيس الأحزاب، وعند ذلك يأتي الاعتبار الثاني. الاعتبار الثاني: النظر الواقعي، ومقتضاه أن تجيز قوانين الدولة تأسيس أحزاب مختلفة الاتجاهات والمشارب والمنهجيات للعمل في إطار ما يسمى بقانون الأحزاب، فيكون عملهم مؤطراً بالإطار القانوني والسياسي الذي يتيحه دستور الدولة المعنية، وهذا التصور يغلب على الدول التي تتبنى النهج الديمقراطي، وعند ذلك يمكن لأرباب الخطاب الإسلامي العمل تحت مظلة دستور الدولة المعنية وتشكيل أحزاب تتبنى النهج الإسلامي؛ من أجل تحقيق مقاصده المنهجية والدعوية، والأصل الذي يستند عليه هذا التقرير هو العمل المصلحي الذي يكون منضبطاً بقاعدة المصالح والمفاسد، وهذا يستدعي قراءة الواقع وفقهه، واستغلال السبل المتاحة للتأثير في عقلية أفراد المجتمع، وعندها يكون النظر إلى النظام العام الذي يحكم البلاد بحسب قربه وبعده عن الشريعة، ويسري هذا الحكم الاجتهادي على قضية المشاركة في المجالس النيابية أو المشاركة في تشكيل الوزارة دون تفريق بينهما، فتجويز الانخراط في العملية النيابية، يعد تجويزاً للمشاركة في العملية الوزارية، فالقضية طالما أنها راجعة إلى النظر الاجتهادي الذي يسوغ فيه الاختلاف، فهي إذن مرتبطة بقاعدة المصالح، ولا ينبغي الإنكار على المخالف في هذه القضية أنى كان مذهبه الذي تبناه سواء القبول أو الرفض، لكن لا بد من التنبيه إلى أن نظام الدولة ودستورها قد لا يجيز تأسيس الأحزاب إلا إذا كانت إسلامية، أو أنها تعلن برامجها المؤسسة على الشريعة الإسلامية كأساس وأصل للعمل السياسي، والحكم عند ذلك يدور مع الجواز بالاعتبار الواقعي، فيكون عمل الأحزاب الإسلامية تحت مظلة الدستور، ولا حرج لو تعددت الأحزاب في هذا الإطار، طالما أنها متفقة من حيث المرجعية والأصول والمبادئ، ولا يضر اختلافها في الوسائل وأساليب الإدارة والحكم، لكن لا بد من العمل الجاد لتوحيد الرؤى السياسية وصولاً إلى جعل هذه الأحزاب كتلة واحدة تعمل في إطار سياسي واحد لجعل الشريعة هي الحاكمة. وأما إذا كانت الدولة تجيز تأسيس الأحزاب دون النظر إلى مرجعياتها ومبادئها المنهجية والفكرية، فلا يخرج الحكم بتأسيس أحزاب إسلامية للعمل في إطار هذا النظام عن قاعدة المصالح والمفاسد، ولا يلزم من العمل في ظل هذا النظام الإقرار بما عليه بقية الأحزاب من أفكار منحرفة ومخالفة للمنهج الإلهي، وإنما يحملها على ذلك الضرورة الشرعية التي تلزم أرباب الخطاب الإسلامي الانخراط في العملية السياسية لتنفيذ مشروعها السياسي، وإلا كانت دائرة في إطار المفعول، وهذا النظر المصلحي يظهر في تقريرات المحققين من أهل العلم، وقد تقدم النقل عن العلامة أحمد محمد شاكر، وتأكيده على ضرورة المشاركة من أجل الوصول إلى تحكيم الشريعة في المجتمعات الإسلامية، ومما قاله: "وإذ ذاك سيكون السبيل إلى ما ينبغي من نصر الشريعة، السبيل الدستوري السلمي: أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة ..."[65]، ولا يشكل القول بتجويز العمل السياسي في ظل نظام أحزاب مختلفة المناهج والأفكار، إذ لا وجود للإقرار بها إلا بالاعتبار الواقعي وليس الشرعي، بل قد تكون المشاركة واجبة لتغيير المنكر بجانبيه المنهجي والحركي، وممن أدرك القضية في الإطار الواقعي العلامة ابن عثيمين حين استدرك على السائل بعض الشبهات في هذا السياق، فقال: "أما القول: إن البرلمان لا يجوز، ولا مشاركة الفاسقين، ولا الجلوس معهم. هل نقول: نجلس لنوافقهم؟ نجلس معهم لنبين لهم الصواب. بعض الإخوان من أهل العلم قالوا: لا تجوز المشاركة؛ لأن هذا الرجل المستقيم يجلس إلى الرجل المنحرف. هل هذا الرجل المستقيم جلس لينحرف أم ليقيم المعوج؟! نعم ليقيم المعوج، ويعدل منه، إذا لم ينجح هذه المرة نجح في المرة الثانية"[66]، وقد قارب هذا التقرير العلامة الألباني وإن كان أكثر تضييقاً للعمل السياسي، ولا ضير في ذلك، فالمسألة اجتهادية، فيقول وقد سئل عن مشروعية المشاركة في الانتخابات البرلمانية التي جرت في الجزائر: "لا أرى ما يمنع الشعب المسلم إذا كان في المرشحين من يعادي الإسلام، وفيهم مرشحون إسلاميون من أحزاب مختلفة المناهج، فننصح - والحالة هذه - كل مسلم أن ينتخب الإسلاميين فقط، ومن هو أقرب إلى المنهج العلمي الصحيح الذي تقدم بيانه. أقول هذا - وإن كنت أعتقد أن هذا الترشيح والانتخاب لا يحقق الهدف المنشود كما تقدم بيانه - من باب تقليل الشر، أو من باب دفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى كما يقول الفقهاء"[67]، فيظهر من هذه النقولات التفريق بين الاعتبار الشرعي والاعتبار الواقعي في تحقيق هذه المسائل، وهي مجال رحب للنظر الاجتهادي من أهله المتأهلين له علماً وتأصيلاً وتقعيداً، ولا ينبغي جعله ساحة للإنكار والتراشق في الألفاظ وقد وسعهم الخلاف السائغ. رابعاً: توزيع السلطات داخل الدولة (الفصل بين السلطات):يعود أصل نظرية الفصل بين السلطات من حيث جذوره التاريخية إلى العهد اليوناني، إلا أن النظرية طُرحت خياراً فكرياً ومنهجياً في الثورات البورجوازية التي حدثت في أوربا ضد مبدأ تركيز السلطة في شخص الملك أو العاهل، وبهذا الاعتبار وضع مبدأ الفصل بين السلطات، حيث السيادة تكون محصورة في السلطة التشريعية التي هي من حق الشعب، وأما السلطة التنفيذية فهي ليست مستقلة وإنما تابعة ومندوبة عن الشعب في تنفيذ القوانين، والسلطة القضائية تعد جزءاً من السلطة التنفيذية، وفي الواقع أن التطورات السياسية التي حدثت جعلت من هذه النظرية مفهوماً دستورياً وليس هناك من حدود فاصلة بين هيئات الدولة، وإنما التنسيق والموازنة بين السلطات لوجود الدولة[68]. بهذا التوصيف لتصور المفهوم يظهر أن الفصل بين السلطات كإطار نظري وفكري فيه جانبان، الأول الفلسفة التي تنطوي عليها نظرية الفصل بين السلطات، حيث يكون حق التشريع للشعب من خلال ممثليه في المجالس النيابية، والجانب الثاني هو الجانب الإجرائي الوسائلي، ولا شك أن الجانب الأول غير منظور إليه في إطار النظام السياسي الإسلامي، إذ معلوم بداهة وضرورة شرعية أن هذا النظام يقوم على قاعدة حاكمية الكتاب، وهذه القاعدة تتجلى في جعل الشريعة محوراً تطبيقياً في حياة الناس والمجتمع، إذ الإسلام يعد نظاماً شاملاً للحياة، يسعى إلى ترشيد حركتها في جوانبها كلها بقيم التوحيد والحق والعدل والخير التي نزل لها الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لذلك فإن تأطير المجتمع الإنساني بقيم الحاكمية غاية من غايات الشرع، وتحقيق العدل بين الناس فريضة من فرائضه[69]، بغض النظر عن الأسلوب والوسيلة التي تحقق هذه القواعد والمبادئ، وبهذا تتغاير المنهجيتان المنهجية الإسلامية والمنهجية الغربية، فالفصل في إطاره النظري الفلسفي لا وجود له في النظام السياسي الإسلامي. وأما الجانب الإجرائي الوسائلي، فلا مانع من أن يكون مجالاً للاقتباس؛ لاستنادها على قاعدة المصالح، وهو وليد خبرات إدارية ولها مؤيدات شرعية من مبدأ النظر في المآل والأدلة الجزئية كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾[70]، فالآية تشير إلى إمكانية حدوث نزاع بين الحاكم والمحكوم، وإلى جهة يرجع إليها في حل النزاع، وتعد الرقابة القضائية إحدى هذه الجهات التي يناط بها رد الخلاف إلى الله ورسوله بالاحتكام إلى نصوص الشريعة وقيمها العليا، وتشير النصوص الشرعية إلى طبيعة القضاء المطلوب إيجاده وإلى مسؤولية الأمة عن حماية ضعفائها كما في حديث رسول الرحمة والعدل - صلى الله عليه وسلم -: "لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع"[71]، أي من غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه، فالتوجيه النبوي لا يكتفي بأن ينال الضعيف حقه حتى تحل القداسة في الأمة، والبركة والنمو والاستقرار من لوازم القداسة، كي يكون مع نيله لحقه لا يخشى سوء العاقبة، فهناك ما وراء العدالة هو سهولة التقاضي وسياسة الباب المفتوح التي تمكن المظلوم من الوصول إلى حقه بسهولة[72]، فالقضية[73] إذن تعد محلاً للنظر الاجتهادي بحكم أنها دائرة في الإطار الوسائلي، لكن لا ينبغي النظر إلى القضية باعتبارها جزءاً من مفاهيم الموضة والأنموذج التي جعلت محوراً لتقليد المغلوب للغالب، وإنما ينظر إليها من جهة صلاحيتها الإجرائية للواقع الإسلامي أو عدمها، وهذه تترك للأمة في إطار الشروط الجعلية التي تتوافق عليها بين مكوناتها. المراجع• الأبعاد المعرفية لمفهوم الاستخلاف، د. محمد صبري خليل، الخرطوم، مركز التنوير المعرفي، ط1، 2006م.• الأحكام السلطانية، أبو الحسن الماوردي، القاهرة، مكتبة مصطفي البابي الحلبي، ط3، 1393هـ/1973م.• أنوار البروق في أنواع الفروق، أبو العباس القرافي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1418هـ/1998م.• البداية والنهاية، ابن كثير، القاهرة، دار هجر، ط1، 1417هـ/1997م.• التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، تونس، الدار التونسية للنشر، 1984م.• التعددية السياسية في ظل الدولة الإسلامية، د. محمد عبد القادر أبو فارس، بيروت، مؤسسة الريان، ط1، 1415هـ/1994م.• حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، د. عمر سليمان الأشقر، عمان، دار النفائس، ط2، 1429ه-/2009م.• خارطة المفاهيم القرآنية، د. السيد عمر، دمشق، دار الفكر، ط1، 1430هـ/2009م.• رؤية إسلامية معاصرة: إعلان مبادئ، د. أحمد كمال أبو المجد، القاهرة، دار الشروق، ط1، 1412هـ/1991م.• السياسة الشرعية ومفهوم السياسة الحديث، د. محي الدين محمد قاسم، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1418هـ/1997م.• السياسة الشرعية: مدخل إلى تجديد الخطاب الإسلامي، د. عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني، عمان، دار الفرقان، ط1، 1430هـ/2009م.• الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، ابن قيم الجوزية، بيروت، دار الكتب العلمية، بدون تاريخ.• فتاوى اللجنة الدائمة والإفتاء، الرئاسة العلمية للبحوث العلمية والإفتاء بإشراف أحمد عبد الرزاق الدويش، موسوعة ألكترونية منشورة في موقع الإفتاء.• في النظام ا لسياسي للدولة الإسلامية، محمد سليم العوا، القاهرة، دار الشروق، ط3، 1428هـ/2008م.• في النظرية السياسية من منظور إسلامي د. سيف الدين عبد الفتاح، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1419هـ/1998م.• في ظلال القرآن، سيد قطب، القاهرة، دار الشروق، ط12، 1406هـ/1986م.• كتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة، الراغب الأصفهاني، القاهرة، دار السلام، ط1، 1428هـ/2007م.• كتاب الشريعة، محمد بن حسين الآجري، الكويت، جمعية إحياء التراث الإسلامي، ط1، 1421هـ/2000م.• لقاء الباب المفتوح، محمد بن صالح العثيمين، موسوعة ألتكرونية.• مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي، د. حامد عبد الله ربيع، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، ط1، 1428هـ/2007م.• مفاتيح السياسة الشرعية، إبراهيم السكران، موقع رؤى فكرية.• منهاج السنة النبوية، شيخ الإسلام ابن تيمية، مؤسسة قرطبة، ط1، بدون تاريخ.• الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي، دار ابن عفان، ط1، 1417هـ/1997م.• موسوعة علم السياسة، د. عبد الواحد الجاسور، عمان، دار مجدلاوي، ط1، 1425هـ/2004م.• النظام العام للدولة المسلمة، د. عبد بن سهل العتيبي، الرياض، دار كنوز إشبيليا، ط1، 1430هـ/2009م.