أثبتت التجارب في غالب الأحيان، أن نظام الملّة الذي اعتمدته الدولة العثمانية يفتقر إلى الحكمة وحسن التدبير، في إدارة إمبراطورية مترامية الأطراف يتألف معظم سكانها من مجموعات بشرية متباينة الجنس والعرق والدين، تعتنق من النحل والمذاهب ما لا يمكن تعداده وحصره.فإلى جانب معظم المذاهب النصرانية والإسلامية المعروفة، كانت مضطرة إلى التعام...
قراءة الكل
أثبتت التجارب في غالب الأحيان، أن نظام الملّة الذي اعتمدته الدولة العثمانية يفتقر إلى الحكمة وحسن التدبير، في إدارة إمبراطورية مترامية الأطراف يتألف معظم سكانها من مجموعات بشرية متباينة الجنس والعرق والدين، تعتنق من النحل والمذاهب ما لا يمكن تعداده وحصره.فإلى جانب معظم المذاهب النصرانية والإسلامية المعروفة، كانت مضطرة إلى التعامل مع شيع أخرى من رعاياها، صنفتهم دائماً في خانة الكفار والخارجين والهراطقة، وفي الوقت الذي كان فيه السنة عامة، وخاصة أتباع المذهب الحنفي منهم يحوزون كل عنايتها وإهتمامها، شعر الباقون أنهم مواطنون من درجة متدنية، مجردون من عدالة السلطة ورعاية الشرع، وأنهم بحاجة إلى البحث عن الحماية، مما قد يتعرضون له من عسفها وبطشها، فبادرت كل طائفة إلى تأمين الحماية الذاتية عن طريق الإرتماء في أحضان أول دولة أو سلطان يعرضها وعنده القدرة والمهابة الكامنيتين لتأمينها، أو ربما سعت هذه الدول، تأميناً لمصالحها إلى إسباغ حمايتها على من يحتاجها ويطلبها، لتقيم معه علاقة التابع بالمتبوع بإسم الدين، أو العرق، تأميناً لمصالح متبادلة مادية ومعنوية، ما لبثت أن نمت مع الوقت وتجذرت، شاملة مختلف أوجه النشاطات الإنسانية من سياسية وإقتصادية وثقافية، حتى ظهرت في مختلف أنحاء الإمبراطورية العثمانية شبه جاليات من رعاياها تدين بالولاء وأحياناً بالطاعة إلى دول خارجية فاعلة، لا بد أن تستعملها إذا دعت الظروف لتنفيذ مصالحها ومنافعها وربما مطامعها في داخل الإمبراطورية الهرمة التي ما لبثت أن تحولت في شيخوختها إلى "الرجل المريض" في نادي الدول المتنازعة على النفوذ والسيطرة والمغانم، في ظل أساسي شرعي وقانوني وفرته الدولة للطامعين بها، إنطلاقاً من مجموعة معاهدات وأعراف وقوانين عرّفها القاموس السياسي الدولي بإسم الإمتيازات الأجنبية، التي بدأت كمجاملة دبلوماسية، منحها السلطان سليمان القانوني (1520م- 1566م) إلى الملك الفرنسي فرنسوا الأول (1494- 1747م) سنة 1535م.وانتهت إلى أن تصبح تقليداً يتفاقم مع ضعف الدولة وتقهقرها، وعلامة خضوعها إلى غيرها من الدول الأوروبية القوية، وهكذا أصبح ملك فرنسا هو الملك الفعلي والمعترف به على الموارنة، كما هو قيصر روسيا على الأورثوذكس، وذلك أنكلترا على البروتستانت أو ربما أيضاً على الدروز في ظروف سياسية معينة.بقي الشيعة وحدهم في لبنان يفتقدون إلى حماية خارجية، تمدّ من حرية السلطة العثمانية المطلقة في قمعهم، والسعي لإفنائهم، أو إعادة إسكانهم في أماكن أخرى، يعيشون فيها مضطهدين كأقلية في وسط معاد، تهيمن عليه أكثرية مذهبية تنظر إليهم بعين الريبة والشك، مما يقود حتماً في حساباتها إلى أن يذوبوا في هذا المحيط الواسع، ويتلاشوا وبذلك تتخلص الدولة من بعض رعاياها.ضمن هذه المقاربات تأتي الدراسة في هذا الكتاب والتي يسعى الباحث من خلالها تناول العوامل التي مثلث الأساس في التحركات الثورية للشيعة في لبنان في الفترة الواقعة بين العام 1685م إلى 1710م، منطلقاً من أن قروناً طويلة من الإضطهاد والقمع والملاحقات المأساوية التي استهدفت الشيعة اللبنانيين كمجموعة بشرية موحدة، أحيا في شخصية كل فرد منها غريزة حبّ البقاء، وروح المقاومة والتمرد، وغرس قناعة جماعية بأن وجودها أو زوالها كأفراد أو مجموعة يتوقف على نتيجة الدفاع المستميت عن النفس، فكان لمرارة التجارب الماضية، والحاضرة، والخوف الدائم من سوء المصير، والشعور بوحدة الرحم والمهد، أن تولّد مجتمعه، في هذه الأرض الممتدة من منابع العاصي إلى سهول الجليل، ومن سواحل البحر إلى أعلى قمم جبل الشيخ، مجموعة متميزة من البشر، تمتد مع غيرها من المجموعات المجادرة بالكثير من الوشائج وسبل التفكير والحياة، ولكنها لا بد أن تحتفظ بشخصية مميزة في الكثير الآخر من السمات التي غرستها قرون متعاقبة من المعاناة والقلق: فكان أن عرف التاريخ، أن في لبنان قوماً من الشيعة، يمتازون عن إخوانهم في المذهب الموجودين في سائر بلاد المشرق عرفوا دون غيرهم بإسم "المتاولة".وهكذا يسلط الكاتب الضوء على ثورة شيعة لبنان مهما كانت تسميتهم، ويعرض لهذه الثورة التي يقول بأنها لم تحظ ولو بإشارة عابرة في المراجع الأم، والتي يرى بأنها ثورة لبنانية قامت في وجه الإستبداد العثماني، انطلقت من شمال لبنان وما لبثت أن امتدت إلى سائر أنحائه، من بادية حمص حتى الجليل، ومن المدن الساحلية كطرابلس وجبيل وصيدا وصور حتى سفوح الجبل الشرقي في ضواحي دمشق، شاملة لبنان الحالي بكل نواحيه وطوائفه ومكوّناته، واستمرت على تأججها عقوداً عصية على السلطة العثمانية.وقد كان الباحث قد استهل دراسته هذه أولاً بتسليط الضوء على الطوائف اللبنانية في العهد العثماني لينتقل من ثم إلى تعيين مواطن الشيعة اللبنانيين مبيناً أصولهم وليتحدث بعدها عن المشروع السياسي للشيعة اللبنانيين، ثم ليقدم دراسة عن جذور تلك الثورة ثم إنطلاقاتها وتأثيراتها على السلطة العثمانية بصورة خاصة وعلى المنطقة بصورة عامة.