كلمات:التقاط الالماس من كلام الناس

تضمُّ صفحاتُ هذا الكتاب، تأملاتٍ متواليةً استغرقتُ فيها لأوقاتٍ طوالٍ، محدِّقاً فى (المفردات) التى تجرى على الألسنة. وهى مفرداتٌ تبدو للوهلة الأولى محدودةَ الدلالة بسيطة المعنى ، غير أن التأمل فيها، يكشف عن الكثير من المعانى المضمرة، والشواهد المؤكِّدة أن (التواصل) بين المراحل الثقافية المتعاقبة، إنما يظهر على استحياءٍ وعلى نحوٍ من الغموض، فى عديد من الدلائل التى تخفيها اللغة بين طيَّات كلماتها وتعبيراتها. ولذلك، فالناسُ فى بلادنا تجرى على ألسنتهم كلمات، معظمها عامىٌّ وبعضها فصيحٌ ، يستعملونها فى حياتهم بيسرٍ وتلقائيةٍ (وأحياناً باستهانة) من دون أن يدروا بما تخفيه الكلمة بين حروفها من معنى عميق ، بل طبقات متراكبة من المعانى ، تراكمت بفعل الامتداد الطويل لتاريخنا الثقافى . والكلمات عموماً، هى رَسْمُ العالم فى الأذهان. فالوعى الجماعى والفردى يصوغ صورة العالم فى الذهن، عبر عدد من الكلمات التى تتألف منها اللغة . ولذلك فإننا حين نفكِّر، وحين ندرك، وحتى حين نحلم؛ فإننا نقوم بتلك الأنشطة الذهنية كلِّها، من خلال اللغة والكلمات .. ومن ثمَّ، فالكلمات هى مفاتيحُ المعرفة، وهى حدودُ المعانى، وهى وجودُ الأشياء فى العقل الإنسانى، وربما فى العقل الإلهى أيضاً! بحسب ما جاء فى الآية القرآنية البديعة ]قُل لو كان البحر مداداً لكلمات ربى، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى، ولو جئنا بمثله مدداً[ ونلاحظ هنا أن (كلمات ربى) تكرَّرت، مرتين ، لتوكيد هذا المعنى العميق الدال على أن الكلمات هى الوجود، وللإشارة إلى أن كلمات الله هى أمرٌ يفوق الإدراك والإحاطة. ولذا، نرى (المسيح) على جلال قدره، يوصف فى القرآن بأنه: كلمةٌ من الله . من هذه الزاوية ننظر فى الكلمات فنراها أبواباً واسعة للفهم، وسُبلاً فسيحة للمعرفة. سواءٌ كانت معرفة ظاهرة بوضوح فى الألفاظ، أو معارف دقيقة ومدهشة، كامنة فى الكلمات، على ما سوف نراه فى (موضوعات) هذا الكتاب .. ومن المهم هنا، الإشارة إلى أننى أفرِّق تفرقةً خاصة ما بين اللفظ والكلمة، باعتبار أن (اللفظ) هو المقولُ بشكل عام، وهو كل ما يُنطق به؛ سواء كان له معنى فى ذاته أم لا . فاللفظُ (صوتٌ) يدل على أمرٍ يخص المتلفِّظ، مثلما هو الحال فى الزفرات التى يُصدرها المحزون والمكلوم والمأزوم، التى يكون (المعنى) فيها مرتبطاً بالضرورة، بالشخص المتلفِّظ بهذا (الصوت) أو ذاك، فلا يمكن إدراك الدلالة إدراكاً تاماً ، إلا بالإضافة إليه والعطف عليه . وقد يدل (الصوت) على معنى عام تواضعت عليه الجماعة واعتادت، كما هو الحال فى (التأوُّه) الذى يدلُّ لفظُهُ (آه) على الشكوى أو البوح أو تبريح الجوى . وقد يدلُّ أيضاً على الاستحسان أو الموافقة ، أو لوم المحبوب إذا قلنا له مثلاً : آهِ منك .. وفى هذه الحالة ومثلها الكثير، يكون (المعنى) قد ارتبط فى اللفظ، بحال الفاعل تخصيصاً. فما يدلُّ بصاحبه، فهو (لفظ) حتى وإن كان مركباً من عدة أصوات. أما الذى يدل بذاته، بصرف النظر عن قائله؛ فهو (كلمة) حتى وإن كانت بسيطة التركيب، محدودة الصوت. وعلى ذلك، فالكلمة عندى، هى كُلُّ ما له معنىً مستقلٌ عن المتلفِّظ .. ولذلك، فإن كُلَّ (كلمة) لفظٌ، ولكن ليس كل (لفظ ) كلمةٌ .

الصفحة الرئيسية

التسجيل


اعادة ارسال التفعيل