بوح سلمى : سيرة مكان

"كلما داعب الهواء (بسرة) في شموخ نخلة نشعر بها تبدل ألوانها لتقترب منا أكثر، وحين تقطفها أيدينا فهو لقاء المحبة، فنحن الذين واكبنا عمرها يوماً بعد آخر، منذ ان كانت طلعاً يشق جسد النخلة، نصعد إليها لنضع النبات (اللقاح)، ثم يحين وقت (التمرير) فنصفّ (العسق) واحدة جنب أخرى لتكون كعقدٍ لؤلؤي على جيد محبوبة، لتتابعها مسمياتنا فهي خلالة خضراء ثم بسرة حمراء أو صفراء، ثم ناسومة حين تبدأ في الشكل كربطة، ثم رطبة حتى يطغى اللون الأسود على كامل لونها فتصير ثمرة، وكلما أزهر الليمون تابعناه بعيون عاشق، فتمنحنا عبيرها حتى تخرج تلك الليمونة الصغيرة، وتظل تكبر تحت مراقبة عيوننا، وحين يكبر اللون الأخضر فإننا ندرك بالخبرة إن كان يحمل ما يكفي لمعصورة مالح أو عوال، حتى إذا بدا اللون الأصفر يغزوه نجتمع كعائلة لقطاف الليمون ونجمعه في أكياس الخيش ونفرشه فوق السطح تيبسه شمس الصيف، ومنه ما نعصره في زجاجات بها كثير من الملح والفلفل ونخزنها للشتاء.أما أشجار الأمبا (المانغو) فحكاياتنا معها لا تنتهي، وتكون بين صاحبها وبقية أولاد القرية حالة لا وفاق، بما يتيسر لهم من أدوات يحاولون إصابة الثمار المتشكلة كمصابيح معلقة بخاصة بعد أن يتحول لونها للأصفر ولا تحتاج إلا لحصاة تمر عليها، وتسقط إلى الأرض مع الحصاة التي حلقت من أجلها، وقد بسمع صاحب الشجرة أو عابر صوت سقوط الإثنين فتكون لحظة الهروب...بين هذه المنظومة الشجرية تشكلت طفولتنا، نصاحبها طوال النهار، وننام تحت ظلها حين يأتي موعد النوم، في القيلولة أو الليل، ونسمع هسيس أوراقها وحركة أعضائها، وتبدل العصافير بينها، عريشنا الذي نستظل به مصنوع منها، والسمة التي تجلس وننام عليها من نتاجها، والملهبة التي نطرد بها الحر والذباب من صنعها، وهي وقودنا إذا طلبنا الطعام أو الدفء في الليالي الشتوية بالغة البرد، وهي العصا لمن عصى... وهكذا اكتشفنا الحياة... من المهد حيث ولدنا، وإلى اللحد كما شهدنا على سابقينا يتجه بهم حاملوا الجنازات إلى مثواهم الأخير...".النص هو رصدٌ لما مضى حين أطل من خلف شباك ذاكرة سيف الرحبي، كطائر رآه في طفولته القديمة، وقبض عليه مخافة أن يطير إلى الأبد؛ لأن الذاكرات هي في سبيلها لبلوغ الشيخوخة المبكرة، وما مضى بالنسبة له - ذلك - كان عصفوراً طفولياً شقياً يبدو كجيل اليوم كفيلم قديم صور قبل قرن.أما أولئك الجابلين لصاحب هذه السيرة والذين درجوا في تلك السنوات الأولى لفترة السبعينات يستحضرون من خلال هذا اليوم رائحة الأيام المضمخة بعبق أزهار الفل على أشجار الليمون والسفرجل وبتلك الرائحة الشهية في ثمار المانغو هذان الإسمان انسحبا من حضورهما كأشجار ظللته وأقرانه سني الطفولة والمراهقة لتغدو لديه نقطة تذكر تشجي الفؤاد...و"بوح سلمى" ما هو إلا تطواف ذاتي لزمن مر على جيل كتب عليه أن يولد مع ولادة التاريخ العُماني الحديث، يتشكل مع تشكل البلاد خطوة فخطوة في مراحل نموها وإزدهارها.

الصفحة الرئيسية

التسجيل


اعادة ارسال التفعيل