بيت النخيل

كنا نحن الحِيران- كما كانوا يطلقون علينا نحن من نتعلّم في الخلوة أو نتتلمذ على يد شيخ- كنا في خلوة الشيخ الفكي نمسح اللوح في المحّاية، وهي جردل قديم من الصفيح الصدئ به ماء مركون. في يومي الأول في الخلوة وبعد الدرس أردت أن أقوم بعمل نافع، فأخذت الجردل الذي نغسل فيه المحّايات- كنا نكتب بطباشير أو بأحبار- صببته على الأرض خارج الخلوة، فجنّ جنون الشيخ وسبّني. لم أعرف ما الغلط الذي فعلته. كان يبرطم بكلمات مثل: كلام الله! ماء الله! حروف الله! الشيطان الأعسر حمزة وَد الركابي! لعنة الله عليه!“ فزعتُ وجريتُ يومها نحو الدار وهو يركض خلفي كالثور الهائج.كان هذا هو يومي الأوّل في الخلوة، ذهبت في اليوم التالي للخلوة وبعد الدرس أمرنا الشيخ الفكي أن نشرب هذا الماء باعتباره ماءً مقدّسًا أذبنا فيه آيات الله. كنت الوحيد الذي رفض، فأنـزل عصاه الخيزران على رأسي وجسدي بعنف، خشى أن يثير رفضي تمرّدًا بين الحيران إثر تمرّدي، حيث إنهم وقفوا لحظة مُتَبَجِّمين من هذا الرفض، ثم شرعوا عن قهر في الشرب، بينما انهال عليَّ مجدّدًا بغضب الدنيا ولهيب خيزرانته الطويلة، حميت وجهي فقط ولم أفرّ رغم الألم، لكني لم أشرب الماء المقدس، مرة أخرى في المساء حكى لأبي من جديد أثناء مروره لتوزيع جرعات العقاب الإضافية على ذوي الأطفال قبل النوم. قفز أبي من مكانه كعادته الاستعراضية غاضبًا: "أنت يا عوير يا كعب يا كئيب! ما تشرب موية الله؟ أنت والله شيطان ابن شيطان!" ردّت أمي من الداخل على الاثنين بصوت مسموع: "كلام الله ما في الجرادل يا شيخ الفكي! كلام الله في الكتب وفي العقول! كلام الله يدخل الدماغ ما يدخل البطن"

الصفحة الرئيسية

التسجيل


اعادة ارسال التفعيل