علم العروض

قد يبدو التأليف في العروض مغامرة غير مضمونة النتائج، وذلك لجملة أسباب أبرزها قول القائلين إن كثرة المصنفات التي وضعها المشتغلون في التدريس لم تدع لمجتهد فرصة لإضافة ذات قيمة أو اعتبار، فقد صنف علماء العربية الأجلاء منذ وضع الخليل بن أحمد كتابه الأول في هذا العلم في القرن الهجري الثاني مصنفات كثيرة نجد عنواناتها مبثوثة في كتب تراجم الرجال، كما حقق المشتغلونبالتراث العربي عدداً غير قليل منها، غير أني أرى أن كثرة ما ألف في هذا العلم ليس حجة في العزوف عن وضع مصنفات إضافية جديدة فيه، بل إن الإكثار من التأليف في هذا الحقل دليل صحة وحيوية، ودليل حاجة تستدعي المزيد من التأليف لتخلق ألفة بين الطلاب وهذا العلم الذي وصف بالصعوبة الفائقة. وحقاً فقد ابتلي هذا العلم بكمّ كبير من المصطلحات المبثوثة في صفحات كتب علم العروض، وقناعتي وقناعات كثيرين غيري أن تلك المصطلحات الكثيرة لا يغني تعلمها وحفظها مريدي الشعر العربي بكثير ولا قليل، كما لا يؤثر الجهل بها في الذوق الأدبيّ والحس النقديّ لدى الناس، وإذن فإن الخلل في طرق تعليم العروض العربيّ متأتّية من طرق التدريس التي تشغل ذهن الطالب بحفظ مصطلحات عقيمة كثيرة، ومن إصرار بعض من يتولون مهنة التدريس على أن يحشوا أدمغة الطلاب بهذه المصطلحات، كأنهم بها يتعالمون، وذلك مع أني أزعم أن تلك المصطلحات التي حشوا بها ذواكرطلابهم تتفلّت من عقولهم، ولا يكاد يتبقى منها فيها إلا النزر اليسير، ثمّ إن تلك المصطلحات العروضية المنفِّرة للعالم والمتعلِّم على حدّ سواء لا تربّي ذائقة متلقٍ، ولا تصقل تجربة شاعر ناشئ، ولا تأخذ بأيدي مبتدئي الشعراء، ولا يَتوكّأ عليها شداة الطلاب وهم يقرأون الشعر فيدركون أن قراءاتهم مستقيمة أومختلّة، أو حين يكتبون أطروحاتهم ورسائلهم وبحوثهم الجامعية.وقد جاء هذا الكتاب لينحِّي عن هذا العلم صفة الصعوبة التي اقترنت به بسبب كثرة ما به من مصطلحات، فجعل المصطلح العروضي لذلك في هامش اهتماماته، إذ احتفظ بالقليل الشائع منها تذكيراً حسب لغايات أكاديمية صرفة، وأهمل الوقوف على أكثرها، وألحّ على التذكير بعدم الحاجة إلى حفظها، لأن غاية اهتمامه وأقصى أمانيه هو تدريب آذان المتلقين وذائقتهم الفنية على تحسُّس مواطن الإيقاع والتنغيم في الشعر العربي ولسان حاله ما قاله ابن رشيق في العمدة «ج 1 - »211 في ربطه بين التنغيم وموسيقا الشعر: أن يكون الشعر u1578 تحت حكمك ولا تكن تحت حكمه فمقْود الشعر هو الغناءُ، ولأن الترنُّم بالشعر لا يعين الشاعر وحده على ضبط إيقاع قصيدته، بل يعين المتعلِّم أيضاً على إدراك الاتّساق النغمي فيما يقرأ وينشد، وقديماً قال حسان بن ثابت الأنصاريّ في هذا الربط العضويّ بين التنغيم والشعر:تغنَّ بالشعر إما كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر عنوانوانطلاقاً من هذا التلازم بين الشعر والغناء فقد حرصت على ربط بحور الشعر العربي بالغناء حين نصصت على الكثير من ا لقصائد المغنّاة في جلّ البحور العروضيّة المدروسة، وتأكيداً لهذه الفكرة وترسيخاً لها في التطبيق فقد سعيت بما بثثتُ فيه من تدريبات كثيرة إلى تذوق موسيقا الشعر العربي العمودي والحر سواء بسواء، ودون الوقوف على موسيقا الشعر العمودي وحده، وسيسهم هذا الكتاب لذلك بوضع آليات تدريبية تمكِّن الطلاب والمشتغلين بتحقيق التراث من ضبط كتاباتهم، وإدراك ما في المقروء أو المكتوب منهما من خلل في الوزن. وقد قمت بتوزيع بحور الشعر العربي في مجموعات أربع، أسميت المجموعة الأولى مجموعة فعولن وتضمّ المتقارب والطويل، لأنها التفعيلة التي تتصدّر هذين البحرين، وأسميت المجموعة الثانية مجموعة فاعلاتن، وتضمّ الرمل والمديد والخفيف، لأن هذه التفعيلة هي التي تتصدَّر هذه الأبحر الثلاثة، وأسميت المجموعة الثالثة مجموعة مستفعلن، وتضمّ الرجز والسريع والبسيط والمنسرح والمجتثّ، لأنهذه الأبحر الخمسة تبدأ بهذه التفعيلة، وسميت المجموعة الرابعة مجموعة مفاعيلن، وتضمّ بحرين يبدآن بها هما الهزج والمضارع. وبقيت خارج نطاق هذه المجموعات أربعة أبحر، ثلاثة منها صافية، ينفرد كلّ واحد منها بتفعيلة خاصة به، وهي: المحدث أو المتدارك وتفعيلته فاعلن، والكامل وتفعيلته متفاعلن، والوافر وتفعيلته مفاعلتن. وأما البحر الرابع فهو المقتضب الذي يتشكل من: مفعلاتُ مستفعلن.وأزعم بعد هذا أنني حاولت محاولة جادة في تيسير تعلم العروض وتعليمه حين كان التركيز الأكبر ينصبّ في كتابي هذا على تمرين الذائقة الموسيقية لشداة هذا العلم بمحاولتي قدر الطاقة أن أجعله ينفتح على فني الغناء والتلحين لارتباط أوزان بحور الشعر بهما ارتباطاً عضويَّاً، فإن لاقت هذه المحاولة قبولاً حسناً لدى أهل العربية فبها ونعمت، وإلا تكن كذلك فيظلّ الحمد لله موصولاً غير منقطع أن هداني لهذا.

الصفحة الرئيسية

التسجيل


اعادة ارسال التفعيل