التشظي

كان سكان "آل وادح" في ذلك الزمان، ينادون قريتهم "إم وطن"، وهي مجرد قرية في أقصى جنوب المملكة العربية السعودية. و"ككل القرى المتناثرة حول مدينة "أبها"، كانوا "يحبون حياتهم وأرضهم إلى الحد الذي يجعلهم لا يرون الأشياء بعيونهم بل بقلوبهم"، وكان تناغمهم مع الطبيعة "يجعل أعماقهم ذات ثراء إنساني" بخلاف أولئك الذين امتلأت قلوبهم "بالادعاءات العديدة، إدعاء التدين، وإدعاء المثالية، وإدعاء الفضيلة، وإدعاء الطهر، وإدعاء القداسة لبعضهم البعض".تروي الكاتبة السعودية على خطين متلازمين متقاطعين، التحولات الاجتماعية والسياسية التي طرأت على هذه المنطقة وتصاعد نمو سلطة الحركات الدينية فيها، ومن ثم انعكاس هذه التحولات على حياة مجموعة من النماذج البشرية التي تقطنها.فمن ناحية تستعرض ظهور "الشيخ جهيمان" الذي يملك في تكوينه، إضافة إلى تبحره بالعلم والتفقه، شيئاً كالذي يملكه "بعض الأشخاص دون سواهم، يجعل الانجذاب إليهم أقوى والثقة بهم أكبر وأعمق"، فيصبح زعيم "الدعوة المحتسبة" وهي جماعة دينية مقرها المدينة المنورة، تمدد جمهورها فيما بعد على طول البلاد وعرضها". أصبح للشيخ تأثيره الفعلي و"تمكّن من تحقيق رغبته، فصارت الدروس الدينية وفق منهجه تطال عقول كثير ممن يرتدون الزي العسكري"، كما أن تلامذته من بعده أحكموا سيطرتهم "على أجزاء واسعة من التعليم".ومن ناحية أخرى وفي دراسة نفسية واجتماعية متعمقة، وفي حبكة روائية وأسلوب سردي مشوق، تستعرض الكاتبة عدداً كبيراً من الشخصيات نساء ورجالاً، فترافقهم في تفاصيل مراحل حياتهم وتعيش معهم أحاسيسهم ورغباتهم، في تحليل عميق للأسباب التي أدت إلى تكوين شخصياتهم وفي تفسير لسلوكهم وتعاطيهم وخياراتهم.تبدأ بقصة "آمنة" التي هي نموذج عن كل قصص النساء في هذه المنطقة اللواتي يحدد لهن مسار حياتهن دون أي رأي ولا مشورة لهن فيه، واللواتي لا يحق لهن اختيار الزوج، فيقعن ضحية زواج مبكر دون أي تحضير أو تأهيل له، لا نفسياً ولا جسدياً، فيرضخن للأمر الواقع، بلا أي حيلة ولا قوة تعين على الرفض. فـ "الألم يختار دائماً أقل الناس قدرة على صده. وأي النفوس أشد هشاشة من طفلة تواصل المرح مع رفيقتها" "هدباء" في تلال القرية التي لم تعرف أنها ستغادرها قسرياًُ ودون علمها إلى الرياض مع رجل غريب سيصبح زوجها. فآمنة "طفلة لا تجيد الحذر"، ولا تعرف شيئاً عن ما خطط عمها "غازي" لمصيرها مع "صالح" و"همجيته التي اغتالت طفولتها وتركتها مهشمة، خانعة، ومضطربة". لم يعرف بذلك أيضاً "أحمد"، "المراهق المفجوع لأنهم قتلوا الحب في قلبه قبل أن يولد"، وقبل أن يخبر آمنة به، "لأنه كان ينتظرها لتكبر". أمها "سعدى وأبوها "يحي" لم يتمكنا من الوقوف ضد هذا الزواج.تتوالى الشخصيات لتروي قصة "تركية" و"مهدي"، و"راشد" الذي استقر في القرية وقد "عقد العزم على غرس معتقده في أرضهم وقلوبهم وعقولهم أجمعين"، سيستميل "محسن" الذي يبحث عن "ذاته التائهة" بعد أن عرف قصة أمه "مزيغة" الجميلة التي تركها "سعد" لمصيرها، بعد أن تكّون جنيناً في بطنها، فجاءت إلى القرية هرباً من الفضيحة في ديارها, كما سيستميل "أحمد" الذي أحس "بخيانة الجميع له". تتكاثر الشخصيات وتتشابك قصصها ومصائرها. هل ستعود آمنة وتعرف معنى الحب؟ هل تنجح "الدعوة الدينية" في بسط سلطتها وتثبيتها بغير السلطة العسكرية؟، أم هل سيكتشف أهل القرية أن راشد "شككنا في أهلنا وأوغل صدورنا على بعضنا"؟قامت الروائية السعودية بعمل متقن في تركيب هذه الرواية المتكاملة الخصبة، من خلال تشكيل عالم محكم البنيان بأسسه وتفاصيله، ومن خلال بناء الشخصيات التي تعكس في تصرفاتها ومسارها وحركتها، معرفة عميقة بالأوضاع الاجتماعية وبتأثيرها في تكوين النفس البشرية بمختلف فصائلها وأنواعها.

الصفحة الرئيسية

التسجيل


اعادة ارسال التفعيل